جاء أداؤه في المسرحية ناضجاً مشبعاً بروحه المسكونة بشغف المبدع، ممتلئاً بإحساس عالٍ عبر كل كلمة يقولها فيصل إلى المتلقي بعمق وسلاسة، وفي الحكاية الثالثة التي كان بطلها امتلك القدرة على الأداء حد العفوية فذهب بها بعيداً إلى مساحات كثيرون قد يتهيبون قبل دخولها، فك شيفرة الشخصيات بكل ما فيها من تفاصيل وحياة وألم، وبدا شغله عليها حتى من خلال نبرة الصوت وتلوّنه، وإظهار ما بداخلها وآلية تعاطيها مع الواقع وتفكيرها فيه، إنه ذلك الإنسان الذي تحوّل إلى كلب وعندما حاول استعادة إنسانيته فوجئ بأنه اعتاد وضعه الجديد ولم يعد قادراً على الرجوع لأصله، وتمثلت قدرته في الدور على إيصال تلك الشحنة الموجودة في حنايا الشخصية بكل ما تزخر به من نبض وحياة وألم وقهر فاستطاع ايصالها والتأثير من خلالها على الجمهور.
وكما أن شغل الممثل بدا واضحاً هنا كذلك شغل المخرج بدا واضحاً بشكل كبير، انطلاقاً من انتقاء مازن عباس لأداء هذا الدور مروراً بتحفيزه والبحث في أدق التفاصيل والمفردات لخروج الشخصية إلى النور بروحها المتهالكة وبكل ما تحمل من تفاصيل وصولاً إلى ما أحدثت من تأثير لدى الجمهور، فقد استطاع المخرج المبدع أيمن زيدان تحريك الطاقة المُخبّأة داخل الممثل وإظهارها ضمن حدود الإيقاع المناسب لها، كما سبق أن فعل مع كثيرين عبر مسيرة طويلة من العطاء بحب وأمل.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر فللفنان مازن عباس العديد من المحطات المهمة التي كانت تُنبئ أن هناك فناناً مبدعاً ينتظر الفرصة التي يترجم من خلالها ما يكتنز في داخله من ألق وجمال وإبداع، إن كان في المسرح أو السينما أو التلفزيون، ومنها على سبيل المثال لا الحصر دوره في فيلم (مطر أيلول) عام 2010 للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، فقد شكل حضوره السينمائي فيه رهاناً استطاع من خلاله تجسيد شخصية أمير البزق (محمود عبد الكريم) عبر تكثيف عبوره القصير، حيث كان يحمل في الصباح آلته الموسيقية ويسير في شوارع دمشق زمن الأربعينيات من القرن الماضي، يصل إلى إذاعة دمشق ليعزف شارة تنبيه تميّزت بها إذاعة دمشق (قُدم المشهد بالأبيض والأسود)، ورغم صغر حجم الدور إلا أن مازن عباس استطاع أن يحوّله إلى دور مؤثر ويترك من خلاله بصمته الخاصة، تلك البصمة التي لم يبخل بها في أي عمل كان يسمح له (الورق) فيه أن يقدمها.
فنان يتملك هذه الكاريزما والطاقات الإبداعية المميزة لا بد أن تُمنح له الفرصة المدروسة والمناسبة لإمكانياته الحقيقية، وأنا على يقين من قدرته على منافسة الكبار من الممثلين العرب الذين كرسوا عبر مسيرة حياتهم حضورهم في قلوب الناس، وأدعو المنتجين والمخرجين للتخلص من النظرة التقليدية المُستكينة في اختيار ممثليهم، ليروا فيه تلك الطاقة الكامنة، فمن المُجحف ألا يجد المخرج الذي يقرأ جيداً ما لديه ليوظفه بالإطار الأنسب عبر عمل مهم، ومن المُجحف أن يقتصر حضوره على أدوار بعيدة عن إمكانياته الحقيقية إلا فيما ندر، لا بل من المُجحف ألا يُكتب له خصيصاً أعمال تناسب تلك الكاريزما التي ستُفاجئ الجميع وتدهشهم ، كما أدهشنا في (3 حكايا).