صدقي المقت وعلى الرغم من كل أنواع التعذيب لم ينقطع عن الكتابة.. كتب عن حبه للوطن الأم سورية.. كتب واصفاً لما كان يتعرض له في سجون الإرهاب.. كتب عما كان يعانيه هو وكل السجناء من أبناء الجولان وفلسطين والعرب.. ننشر اليوم، كتب عندما دخل عامه العشرين في سجون الاحتلال خاصة عندما تم نقله إلى سجن هريم الصهيوني. يقول صدقي:
في هدريم وقفت الحافله تنتظر التفريغ والتعبئه مثل باقي السجون... حينها استعدت كل تفاصيل ذلك المشهد الذي لن انساه طيلة حياتي... قبل عام كنت مسافرا بذات الاتجاه وعلى ذات المسار وربما بذات الحافله...كانت الساعة تقترب من الرابعة بعد الظهر... أي بعد مضي ما يزيد عن تسع ساعات من السفر... كنا جميعا في حالة إرهاق شديد وجوع وعطش... وفي أمس الحاجة لدخول المرحاض... في حينه وقفت الحافلةتنتظر وهم غير مبالين بحالتنا... ونحن نستعجل الزمن وعقارب الساعة كي تسير وكي نصل المحطة النهائية في سجن الرملة...لكن عجلات الحافلة بقيت ثابتة وحالتنا تزداد سوءاً وضغطاً... نادينا على الشرطي وطرقنا على جدران الصندوق وبعد جدال وضغط وافقوا على أن ينزل البعض منا لقضاء الحاجه وعلى احضار طعام لنا... كنت من بين من هم في أمس الحاجه لدخول المرحاض... نزل الأول ورجع... بعدها الثاني ورجع...جاء دوري ونزلت من الحافله... وعندما وطأت قدماي الأرض شعرت أنها ليست صلبه كما اعتدت طيلة عشرين عاماً... ها هي قدماي تطأ التراب... آه ما أجمل التراب وكم هو جميل ملامسته حتى ولو كانت الملامسه عبر الحذاء... رفعت رأسي إلى الأعلى فإذا بي أرى الافق من بعيد وأرى مشهد الغروب والشمس في اجمل صورها تلامس الافق...ارى السماء والشمس والغروب والأفق وجهاً لوجه صافيه من دون اسلاك او قضبان...مشهد حزين أثار في نفسي كل الأحزان والمشاعر الإنسانيه...عشرون عام وأنا انتظر هذه اللحظه التي أرى بها الغروب... طيلة تلك السنوات كنا نرى الشمس تطل علينا في الصباح من وراء اسوار عالية وتغيب وراء ذات الأسوار...ها انا الآن وجها لوجه أمام الغروب بأصدق وأجمل صوره...غروب حقيقي بكل احزانه...اه لو يتوقف الزمن عند هذه اللحظه...كم كنت متشوقاً لان اكون وحدي افتح ذراعي واشكو إلى الشمس كل احزاني.. وأصرخ باعلى صوتي:
(أيتها الشمس...لقد خُلقت لكل الناس... بأي حق نُمنع من مشاهدتك وانت تنهضين من فراشك... أو عندما تغتسلين بمياه البحر... عشرون عاماً وانا اراك فقط في ساعات الظهيرة... ملتهبة قوية غاضبة...لماذا ايتها الشمس لا تأتين إلينا في الصباح والمساء كباقي البشر...).
ولكن كيف لي أن أحقق ذلك والقيد يكبل يدي ورجلي والحراس بأسلحتهم من حولي من كل جانب... وعندما طال تاملي قالت لي نظراتهم عليك بالتحرك...سالتهم : (أين المرحاض؟)... قالوا لي : ( اختر اي مكان )...كيف لي ان اؤذي هذا المشهد المقدس ؟...ايعقل ان يكون لقائي الاول مع الغروب ومع الشمس بمثل هذه الظروف؟...ولكن ليس امامي اي خيار... وقفت قبالة الشمس مقيد اليدين والرجلين ومن خلفي الحراس وأنا أنظر إلى الشمس خجولا ومعتذرا منها على هذا الجرم الذي ارتكبه... أنهيت وأنا حزيناً كئيباً مقموعاً... صعدت الحافلة وجلست مكاني وأنا أشعر كمن أجبر على القيام بأشياء تتعارض وكل قيمه ومشاعره وأحلامه... وفيما أنا غارق في التفكير بالجريمة التي ارتكبتها قبل قليل... فإذا بالباب يُفتح ويدخلون صندوقاً صغيراً من الكرتون بداخله طعام... يرمونه على الارض في الممر بين أرجل السجناء..
تماماً كمن يقدم العلف إلى قطيع من الأغنام...من شدة الجوع يتدافع السجناء وكلهم من الجنائيين نحو ذاك الصندوق وكل يأخذ شيئاً من الطعام ويبدأ بالتهامه وهم مقيدين بالأيدي والأرجل... نظرت إلى هذا المشهد ونفسي لم تشفَ بعد مما حل بي قبل قليل...قلت بداخلي من المستحيل ان تداس إنسانيتي مرتين... لن أسمح لأحد بأن ينال من كرامتي مره اخرى...لن انساق مع هذا القطيع إلى ذاك المعلف... لن أسامح نفسي إلى الابد ان فعلت ذلك... في المرة الاولى كنت مُجبراً وليس امامي اي خيار اخر... أما الآن فلا شيء يجبرني أن أدوس على إنسانيتي وقيمي... بقيت مكاني وكأني بذلك أُكفر عن ذنبي الأول وأُداوي جرحي الأول...شعرت بسعادة كبيرة وقد استعدت توازني النفسي والانساني... اختبرت ذاتي واختبرت قدرتي على رفض الأشياء التي لااقبل بها... وكانت النتيجه انني قادر على الرفض وهذه علامة حياة........).