وأن يكون هذا الانتماء القومي ذا اتصال واضح ومصيري بمجمل سياق الحركة القومية للعرب، وأمثلة لهذا الانتماء القومي الوطني ناصعة ومتعددة في تاريخنا المعاصر، نستذكر الثورة العربية الكبرى، نستذكر الثورة الجزائرية، نستذكر الحالة القومية رداً على العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، نستذكر الثورة السورية الكبرى، نضال جنوب الجزيرة العربية ضد الاحتلال البريطاني، وقوف العرب إلى جانب العراق ولا سيما ضد معاهدة بورتسموث بيفن، وفي عمق المسار القومي هذا تتأصل القضية الفلسطينية التي تخلقت وبدأت قومية المنشأ والميادين.
ثم تم ضغطها قسراً إلى المفهوم الوطني المستحدث لا الأصيل، وثاني الشروط في الموقف العربي والممتد المتأصل، هو مشروعية هذا الموقف، بمعنى مساسه العضوي في التكوين العربي المعاش، وتأثيرات هذا الموقف على طبيعة وصيغة المصير العربي المشترك بحيث يجري تأمين المواجهة على أساس متساو وثابت لمجمل التشكيلات العربية السياسية والاجتماعية، وبحيث تبقى ثابتة عوامل ووقائع الرد على الظلم والجور القائمين على العرب، بمنطق منهجي فكري من ناحية ومواكبة عملية نضالية وسياسية من جهة أخرى، والمشروعية لا تفتعل ولا يداخلها التآكل والزوال فيما بعد، لأنها تعبير متأصل عن منظومة من الثوابت بحيث يعني التمسك بها فجأة وحضوراً على الأقل.
وبحيث يعني تجاوزها هزيمة وتشظياً يطول المبادئ والبشر وصيغ التفاعل على أرض الواقع، والشرط الثالث هو بناء مشروع الموقف العربي أي الانتقال من منظمة القناعة وتجلياتها إلى الممارسة العملية المنظمة على قاعدة الانتماء القومي. والمشروع هو بالتعريف الصيغة المنهجية والواقعية المبرمجة والمستمرة لنسق مشروعية الحدث نفسه، وكلاهما يلازم الآخر يغذيه ويستمد منه، ذلك أن المشروعية دون المشروع هي هواجس أخلاقية والمشروع دون المشروعية اختيار انتقائي محكوم بتحولات على مرحلة وسرعان ما يتداخل مع هذا المشروع في انقطاعه عن المشروعية، الحكم الذاتي، والهوى الخاص والمزاج التقديري ومصالح السياسات ورؤاها التي ترتد عادة من الضرورة إلى التدجين، ومن العام إلى الخاص، ومن الاتسام والتعمق إلى ضيق الدائرة وانكماش الإحساس المؤسس والدافع، وأظن أن النقد التاريخي للحالة العربية يأخذنا إلى هذا المطرح مباشرة، فقد تراخت أكناف القضية المركزية، أياً كانت، وصارت الأطراف هي عامل الجذب والحسم، وانفصل المشروع القومي عن مشروعيته عنوة وتخاذلاً، حتى وصلنا إلى مرحلة صار المشروع القومي بتبعاته ومناخاته يساوي العبء أو الاتجاه المرهق بحيث يكون الارتداد هو البديل منه.
وأما الشرط الرابع فهو ما تشتمل عليه فكرة الذاكرة المحصلة والمستقرة.
فالأمر الطبيعي حينما يتاح للأمر الطبيعي أن يستقر ويمر هو التوجه بكل تفاصيل النضال زماناً ومكاناً وتجمعات نحو نظام الوحدة، فالوقائع لا بد لها أن تصبح ظواهر وليس مجرد عطاءات محصورة، أو ذات هوية خاصة، إن مجمل أجزاء النضال القومي تشكل خزاناً يكاد لا ينقطع، ولكن العلة كانت على الدوام هي باحتجاز واقع أو واقعة نضالية في حدودها الضيقة جغرافياً ومعنوياً، كانت موجة بل موجات الاستهداف الخارجي المعادي تتواصل، تتوحد، وكل جيل من العدوان يضع خبرته تحت تصرف الجيل القادم، وما من أحد مؤرخاً كان أم ناقداً أم عادياً إلا ويقرّ بوحدة المشروع الاستعماري، حتى في لحظة صراع محاور هذا المشروع بين تشكيلات غربية على مدى أكثر من قرن، كان الصراع القاتل ينحسر ثم يسمح الاستعمار الغربي بامتداد الفواصل والمفاصل إلى بعضها البعض، حتى لكأننا الآن أمام عدو واحد، بهدف واحد، وبهمجية واحدة، إن الآخرين الغرباء يتصارعون فيما بينهم وقد أنجزوا حربين كونيتين في العصر الحديث فيما بينهم، ولكن هؤلاء الغرباء يتحدون على العرب بلا تردد، من يستطيع في هذه اللحظة أن يجد فارقاً ذا معنى بين دول الاستعمار الأوروبي، رغم التطاحن فيما بينهم، ومن يمتلك الجرأة ليقول: إن المشروع الإمبريالي الأميركي منفصل عن المشروع الإمبريالي الغربي الآن، وهنا تنفجر أغرب المزايا والمسلكيات عند العرب في هذه دالحظة، صارت السياسة العربية خبيرة وشهيتها مفتوحة على تمزيق أواصر النضال التاريخي، وهي تستعد الآن لتمزيق أواصر القربى والرحم التاريخي والحضاري، وتكاد المشهدية العامة الآن تؤكد أننا قد دخلنا في فكرة الأشلاء والتي صار كل جزء فيها هو عبء على الجزء الآخر وصارت كل مرحلة في النضال القومي هي مجرد استطالة انتهى مفعولها ورحلت مبرراتها، وهنا سوف نشهد معيارين وافدين بقسوة إلى الحياة العربية، أما الأول منهما :فهو الإجهاز المنظم على مصادر الذاكرة القومية المعاصرة والسعي الدؤوب لإلغاء مكونات هذه الذاكرة، وتغليفها بالإنتاجات الطارئة القائمة على وأد مفاعيل الذاكرة وإعادة تفسير النضال القومي على أنه مبادرات محلية، ومفاجآت مالبثت أن همدت وقد زايلتها المشروعية، وسحبت منها احتمالات الامتداد الأنفي إلى الجغرافيا العربية وإمكانيات نقلها من جيل إلى جيل، ولولا عنصر المقاومة في هذا الزمن الارتدادي لكانت وقائعنا هذياناً لا لزوم له، أخشى أن تكون حالة التصاغر والانكفاء قد صارت عامل تدمير ومعول هدم للذاكرة العربية المناضلة المعاصرة بما في ذلك النظرة للشهداء على أنهم كانوا نماذج خاصة وقد ولى زمن الشهادة وآثارها، والمعيار الثاني الوافد هو أن تندمج السياسات العربية بالمواقع الأجنبية، وأن يصير الداخل محكوماً بإرادة الخارج إلى درجة الاندماج مع الغرباء والاستقواء بالأجنبي ونقل المشروعية السياسية والأخلاقية من الهزات العربية إلى مراكز التحكم الخارجي، إن صراعاً هو في غاية المرارة يفرض مقدماته الآن لنستعيد مشروعيتنا وذاكرتنا.
أليس من الجدير بالاهتمام والمتابعة الآن، أن نعطي جزءاً من درجة الإحساس بالانهيار وآلامه إلى مقطعين حيويين هي النواة الراسخة للبدء برحلة وقف الزحف المؤذي والمدمر على الحياة العربية عبر هذه الجماهير التي تتوق للعودة من جديد إلى الإمساك بمصادر واقعها، وبناء الخنادق الأولى للرد على المشروع المعادي بمصدره الخارجي ونتوءاته الداخلية.
وأتصور أن حالة البكاء والرثاء قد طال أمدها، لأنها في الجوهر تعني التحريض على التجاوز وليس مجرد البكاء على الأطلال إلى أبد الأبدين، إن الشعب حي وإن تراءى للبعض أن هناك حالة من الارتداد واللامبالاة. ذاك هو الظاهر ولكن العمق يشتمل على عوامل الحياة ومقدرات الصحوة وإمكانية الانبعاث باستثمار ما كان لتغذية ما يجب أن يكون، وأن المقطع الثاني وهو الحالة التعبيرية عن المقطع الأول فها هي إرهاصاته، بل ملامحه وخطابه المنهجي يتجسد في الفكرة التي يرسي دعائمها ويحرك إنجازاته البكر الرئيس القائد بشار الأسد في مسعى واضح لإدخال منهجية الاختلاف في الداخل العربي على أساس من عزل الثوابت والقضايا الكبرى وتأمين مصادر السلامة والتطور لها وكذلك الأمر في النظرة إلى الموقف السياسي على أنه إرادة لا بد أن تتوطد، وإدارة لابد أن تصوغ في حيثياتها في الحوار والتنوع على أساس التخلص من الأهواء والأنواء، والاستفاقة من جديد على أننا في مركب واحد، قد لا نتطابق، لكن ثقافة الاختلاف والحوار هي التي تدلنا أمام ضياعنا على أننا في مركب واحد، فإن أطلقت للشذوذ المخرب حرية التدمير هلك وهلكنا معه، وإن أخذنا على يد الخارجين عن منطق التاريخ والضرورة نجا ونجونا، تلك هي المعادلة في جزئيها، انهيار وعقم في الطرف الأول وشعب ومنهجية في إدارة الخلاف في الطرف الثاني.