والسؤال هل عجز المعنيون بقطاع الاقتصاد والتجارة عن إيجاد صيغة ملائمة تحقق الاستقرار في عرض المادة بالأسواق وبشكل يلبي كافة المداخيل ودون أدنى ضرر بالقطيع سواء كان غنماً أم أبقاراً.. أم تتبدل القرارات حسب الاجتهادات .. وبالمحصلة العودة إلى ماكان معمولاً به منذ أكثر من ستين عاماً وتحديداً وفق أحكام المرسوم /1309/ لعام /1947/ كما يحدث الآن دون الاشارة لذلك صراحة.
آخر الابتكارات.. القرار /609/
أصدر وزير الاقتصاد القرار /609/ تاريخ /18/ آذار الماضي وبموجبه ألغي العمل بالقرار /526/ لعام 2003 المتضمن السماح بنقل اللحوم الحمراء على اختلافها بين المحافظات على أن تلتزم المسالخ الفنية والبلديات بتأمين حاجة الأسواق من مادة اللحوم الحمراء وفق شروط تحددها وزارة الإدارة المحلية.
وأن يلتزم أصحاب المحال المتعاملة التقيد بالذبح في المسالخ الفنية المعتمدة والممهورة بخاتم الرقابة الصحية البيطرية لكل مسلخ ولكل من أنواع اللحوم والاعلان عن الأسعار ونوعها وحيازة الفواتير الصادرة عن المسلخ وفي حال المخالفة يخضع المتجاوزون لأحكام قوانين التموين والتسعير وقمع الغش والتدليس وحماية المستهلك.
بين قرارين
وبالمقابل أجاز القرار /526/ لعام 2003 السماح بنقل اللحوم الحمراء على اختلافها بين المحافظات ووفق شروط وضوابط صارمة، كأن يقوم الناقل فور وصوله بمراجعة مراكز الرقابة الصحية البيطرية الموجودة في أسواق الجملة أو المسلخ الفني بمركز المحافظة المنقولة إليها لإتمام جملة شروط رقابية وصحية على أن تتحقق اللجان المعنية بالمسالخ من سلامة الذبائح قبل تسليمها للأسواق من خلال سجلات تبين الكميات وأنواعها ومصدرها وبموجب فواتير نظامية صادرة عن المسالخ المعتمدة أو تجار الجملة وذلك ريثما تصدر الإدارة المحلية لائحة بالمسالخ التي تحقق الشروط الصحية والفنية.
شكاوى بالجملة
وفور صدور القرار /609/ في 18 آذار الماضي وبدء العمل بتطبيقه ثارت ثائرة الحرفيين ولاسيما في دمشق وريفها نظراً للعامل الجغرافي، إحاطة الريف للعاصمة كإحاطة السوار بالمعصم لأن القرار اعتبرهما منفصلتين كما في حالة دمشق وحمص مثلاً.
وتضمنت شكوى اللحامين للجنة الفرعية بدوما: بما أن أسواق المواشي بريف دمشق والحظائر متوفرة ومعزولة عن المناطق المأهولة وقد تمت إعادة تأهيل المسلخ الفني بدوما وهو مراقب صحياً بيطرياً تموينياً.. يتساءل الحرفيون: لماذا يتم الفصل بين المحافظتين وخاصة أن معظم لحامي دمشق يسكنون في الريف مع العكس؟ ويتساءلون.. لمصلحة من تصدر هكذا قرارات؟!
وبدورها تحركت الجمعية الحرفية وأبلغت الاتحاد أن حالة نقل اللحوم الحمراء بين دمشق وريفها معمول بها قبل إحداث محافظة الريف ومعظم المطاعم في المحافظتين والباعة يستجرون حاجتهم من سوق ومسلخ دوما.
ارتياح ولكن؟
مقابل استياء وشكوى ريف دمشق أبدى الدكتور فاروق عطوان مدير المسلخ الفني بدمشق ارتياحه للقرار /609/ كونه برأيه يساهم في ضبط سوق اللحوم بالعاصمة والمحافظات ويهدف إلى حماية الثروة الحيوانية ويُسهل عملية الرقابة على اللحوم.
لكنه أشار إلى أن التنظيم بين دمشق وريفها فيما يخص نقل اللحوم أو منعه منوط بما تقرره وزارة الإدارة المحلية على هذا الصعيد، على أن تتم معاينة اللحوم في المسلخ المركزي وإعادة فتحها قبل طرحها في أسواق دمشق.
الاقتصاد تستثني نظرياً
أمام شكوى الحرفيين وارتياح مديرية المسلخ الفني بدمشق.. كيف تنظر وزارة الاقتصاد إلى إيجابية القرار؟
يقول المهندس عماد الأصيل مدير حماية المستهلك بوزارة الاقتصاد: اعتمد القرار /609/ الشروط الفنية والصحية المحددة من قبل الإدارة المحلية للمسالخ، بحيث يكون في كل وحدة إدارية أو أكثر وفي المدن مسالخ تخضع فيها عمليات الذبح والرقابة للمواصفات المطلوبة من ذوي الاختصاص في الإنتاج والصحة الحيوانية.
والغاية حماية المستهلك وضمان وصول المادة إليه بأصح الشروط الفنية والصحية واعتبر مدير حماية المستهلك أن حالة دمشق وريفها تعتبر استثناء عن باقي المحافظات بسبب التداخل والإقامة والعمل.. وهذا لايعني أن المدن والبلدات البعيدة بالمحافظة مستثناة من أحكام القرار.. ومهمة حماية المستهلك إيصال المادة مختومة من مسلخ معتمد فنياً وتحمل شهادة صحية.
ارتجالية..
ولكن وفي نفس الوزارة أشار بعض المديرين إلى استحالة تطبيق القرار المذكور على أرض الواقع لجملة سلبيات لم تؤخذ بالحسبان منها: تفاقم مشكلة الذبح العشوائي خارج المسالخ وتهريبها للعاصمة، إضافة إلى إحداث حالة من الاحتكار في الأسواق، إذ توجد محافظات منتجة للحوم كما في حماة وحلب وإدلب مقابل الاستهلاك في دمشق، الأمر الذي يساهم في ارتفاع غير مبرر للأسعار ما يفسح المجال للغش والتدليس بالمادة فيما كان القرار /526/ يساهم في ضبط الأسواق إلى حد ما.. أما الآن فحدّث ولاحرج.
مسلسل القرارات
مايدعو للاستغراب أن تلجأ وزارة الاقتصاد خلال الفترة الماضية إلى إصدار عشرة قرارات متناقضة كلياً فيما بينها فيما يخص مادة اللحوم الحمراء تسويقاً..كدليل على حالة من التيه والتخبط دون أن نلمس صداها في الأسواق.
فمثلاً صدر القرار /1022/ في أيار 1997 وأجاز السماح بنقل اللحوم بين المحافظات ثم عدل بالقرار /2317/ في تشرين الثاني من نفس العام لاستثناء محافظة ريف دمشق منه.
وصدر القرار /202/ سنة /1998/ وتضمن إلغاء المادة التي تنص على توجه الناقل إلى المسلخ البلدي في مركز المحافظة المنقولة إليها اللحوم للتأكد من سلامتها وختمها، أي أصبح النقل حراً بلا ضوابط وبمعنى آخر ألغي مفعول القرار دون الإقرار صراحة بإلغائه.
وفي آب من نفس العام صدر القرار /2341/ القاضي بطي القرار /2317/ أي السماح بنقل اللحوم من ريف دمشق إلى العاصمة مباشرة.
وصدر القرار /1524/ لعام /2000/ والذي ألغيت بموجبه كل القرارات السابقة.
إلى أن صدر القرار /526/ لعام 2003 وبقي يعمل به دون تعليمات تنفيذية إلى أن صدر بعد عامين برقم /55/ لعام /2005/.
المحصلة
وحصيلة هذه القرارات تمثلت بازدياد ظواهر الذبح العشوائي خارج المسالخ النظامية ولاسيما للقطيع المنتج من فطائم العواس والنعاج والأبقار الحلوب ومايمثله ذلك من تهديد خطير للثروة الحيوانية.
كما تنامت ظاهرة الغش والتدليس في أسواق اللحوم كأن تباع إناث العواس على أساس سعر لحوم الخراف مع إضافة تعليق الأعضاء الذكرية لخروف على ذبيحة الأنثى لزيادة التدليس والغبن على المستهلك بهدف تقاضي السعر الزائد.
وانتشرت اللحوم المهربة في الأسواق وطرحت أخرى محدودة القيمة الغذائية كأن تكون الذبيحة هزيلة أو مقززة أو نافقة بالتوازي مع دمغات متعددة للصحة البيطرية بعضها رسمي والآخر.. الله أعلم..
ومقابل ذلك كله تخسر الخزينة العامة سنوياً فوات عائدات ذبائح في المسالخ.
إلى أن جاء القرار الجديد /609/ والذي بدأ تطبيقه بالشكاوى حيال الفصل بين دمشق وريفها أولاً.
انعكاس سلبي
تشير الدلائل إلى انعكاس سلبي للقرار الجديد على واقع سوق اللحوم المحلي لأنه كما يبدو صدر بدراسة غير وافية ومانخشاه أن نشهد فوضى جديدة في سوق اللحوم، لماذا ؟ لأن القرار بدئ بتنفيذه قبل أن تعد الإدارة المحلية أسماء المسالخ الفنية المعتمدة في المحافظات والتي تلبي الشروط المطلوبة.
وإذا كان من اليسير فصل تسويق المادة بين دمشق وحمص، فكيف سيتم فصل ريف دمشق المنتج للحوم عن العاصمة المستهلكة لها؟ حيث يتوفر في الريف السوق وزرائب التربية والتجميع والمسلخ الذي أُهل مؤخراً وصرفت عليه المحافظة أكثر من /13/ مليون ليرة.
بينما في دمشق هل تتسع زرائب المسلخ الفني لاحتياجات العاصمة والمقدرة بتسعة آلاف ذبيحة يومياً، ولاسيما بعد أن تم استثمار الزرائب العائدة له في عين ترما لصالح مجمع أسواق الخير!؟
وبالمقابل هل تستطيع دائرتا حماية المستهلك في كل من دمشق وريفها ضبط الأسواق والمطاعم كأن تمنع نقل اللحوم من وإلى العاصمة وبالعكس إلى الريف؟ وبالتالي هل سنحرم اللحامين وأصحاب المطاعم من التعامل فيما بينهم بعد أن امضوا عمراً من التعامل التجاري داخل المحافظتين؟
وهل مايطبق على اللحوم الحمراء سيطبق على الفروج وباقي المشتقات الحيوانية التي تباع بين المحافظتين بعيداً عن الرقابة بأنواعها، كما أنها عرضة للتلف السريع أسوة باللحوم الحمراء؟
أخيراً
واقع الحال يفيد أن العمل بالقرار المذكور /609/ بين دمشق وريفها سيخلق أسواقاً سوداء جديدة وسيكون المستهلك هو ضحيتها على الدوام كما علمتنا القرارات السابقة.. فإذا حدد سعر كغ لحم خروف العواس بـ /570/ ليرة فمن سيردع اللحام عن غشه وتدليسه بلحم أنثى العواس أو مزجه بلحوم البلوك المهربة أو تلك التي تزخر بها صالات الخزن والتسويق ويتقاضى السعر الذي يريده؟
وفي حالة الاستثناء بين دمشق وريفها القريب فقط كما أفاد مدير حماية المستهلك.. والذي يبدو لغاية الآن نظرياً.. فكيف سيتعامل معه المعنيون بالتجارة الداخلية بالمحافظتين ولاسيما أن نص القرار واضح وصريح؟
ومن الأفضل البحث عن صيغة ملائمة تعامل العاصمة ومحافظة الريف على حد سواء بعيداً عن المساومات.. بحيث تنعكس هذه الصيغة راحة لأطراف المعادلة التسويقية من تجار ولحامين ومستهلكين وعلى الأخص جهاز حماية المستهلك.