والغطرسة هو أن الأولى تتفَّهم حدود قوتها بدقة، ولا تبتعد على مراكب الوهم في إبحار خيالي نحو المجهول، بينما الثانية نراها تركب أجنحة الغرور، وتتقصَّى أبعد الغايات ولا تسأل عن خراب قد يعمَّ بها أو بغيرها فرحلتها محدودة وزمنها قصير، ولا سبيل إلى العقل، ولا إلى الحكمة.
وهذا الحال عاينته البشرية في المشهد الدولي منذ عام 1991 حين خرج الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية من خارطة العالم، واعتقد صانع القرار الأميركي أن أحوال العالم الجديد سوف تستتب له بها سيادة لا تقاوم، وسوف تدوم على مدى القرن الحادي والعشرين، ومنذ العام 1996 أخذت المجموعة التي سميت لاحقاً باليمين المتصهين تدعو إلى تطبيق استراتيجية القوة الإمبراطورية لأميركا والتحلل من عدة مبادىء في السياسة الأميركية، وفي الجيواستراتيجية أيضاً حتى تنفرد أميركا بحكم العالم، وإدارة الحكومة العالمية بدون منازع. ومن تفاصيل هذه الاستراتيجية عدم المواصلة مع أوروبا -بعد زوال الاتحاد السوفياتي كحليف، ومعاملتها كتابع. فالحليف شريك كامل الشراكة بينما التابع لا شراكة له، ولا قرار.
وسحب هذه الروحية على الدول الأقوى في هذا العالم اقتصاداً، وسياسة، وعسكرة، ثم سحب هذه الروحية أخيراً على الأمم المتحدة كي لا تتمكن هذه الأخيرة من اتخاذ القرار العالمي العادل فيكون القرار العالمي أميركيّ الهدف والتوجه، والمصالح. وقد مرّت هذه السياسة طيلة العقد الأخير من القرن الماضي لكن صانع القرار الأميركي لم يحسم المسألة في تشكيل الجديد في النظام الدولي وفق المصالح الأميركية وحسب، وخاصة حين انتقلت أوروبا إلى التوحيد، والوحدة ما فوق القومية، وصارت العولمة بالنمطية الأميركية طريقها مسدود أوروبياً، في مثل هذه الأحوال كابرت إرادة المتغطرس الأميركي فاحتلت يوغسلافيا، وأمَّنت لنفسها موطىء قدم دائماً في أوروبا لأن قادة الرأي الأوروبيين أخذت آراؤهم تبدو على سطح السياسة بأنه حين لم يبق العدو الشيوعي لا هو ولا حلفه (وارسو) فما مبرر وجود حلف الأطلسي في مقابل ذلك؟!.
ولكي توجد مسوِّغات كحلف الأطلسي ادعى صانع القرار الأميركي بوجود عدوٍ محتمل داهم هو الأصولية الإسلامية والمطلوب إزاءها ليس الإبقاء على حلف الأطلسي بل تطويره، وتوسيعه حتى حدود روسيا الاتحادية.
ومع ذلك حين بدأت إدارة بوش الابن في عام (2000) كان تقويم صاحب القرار الأميركي واللوبي الصهيوني أولاً بأن أمراً ما يجب أن يتم على صعيد أميركا، تأخذ منه الحجة في إحكام السيطرة على العالم وتجريف ثرواته.
ووفق هذا المنهج افتعلت حوادث الحادي عشر من أيلول (2001) فاعتقد بوش الابن أنه سوف يجمهر العالم إلى أمد طويل في حرب ضد الإرهاب الدولي تشاغل العالم، وتأخذ الذين يقعون تحت الاحتلال الإسرائيلي في الوطن العربي بعيداً عن قضيتهم في الاحتلال لتصبح مقاومة المحتل تصنف إرهاباً، وكأن الاحتلال لا يمثل ذروة الإرهاب الدولي. وهكذا حصل حيث شنّت أميركا حروبها على أفغانستان، واحتلتها ثم احتلت العراق وصار القرار العالمي محصوراً بالحرب على الإرهاب ورفض بوش الابن ما كان يناقشه الصناعيون الكبار في ماسترخت ويحددون فيه مشكلات العالم المتعددة وأهمها تدهور البيئة العالمية الطبيعية، والاجتماعية، والاقتصاد الدولي المتراجع، والهوة التكنولوجية بين الشمال والجنوب، والفقر، والمديونية، والنظام الدولي الجديد كيف يكون؟ نعم رفض بوش الابن كل هذا وأمر الجميع أن يفهموا بأن العالم لا مشكلة فيه سوى الإرهاب، ولا عمل للجميع سوى بمحاربته، وتجفيف منابعه.
وعلى هذه القاعدة شهد العالم أشنع حقب التغوّل السياسي الأميركي حتى قال الدبلوماسي الروسي يفغيني بريماكوف: «إن أميركا تتصرف بدون أي أساس أخلاقي، ولا تريد أن تدرك حدود القوة التي تملكها، فلكل قوة حدود.» وبعد أن زال بوش الابن وإدارته ها هو الرئيس أوباما يقع بين نارين: نار البقاء على خطاب الغطرسة ولم يعد لدى أميركا طاقة مالية حتى تواصل به، وصارت مهددة بالتفكك بعد أن كانت تريد تفكيك العالم. ونار الخروج من هكذا خطاب وتبقى معه هيبة أميركا العالمية موجودة. وإزاء هذا الإرث الثقيل نجد أوباما يضرب ضربة هنا يشعر بها بالتغيير، وضربة هناك يشعر بها بمواصلة الدور المعروف لأميركا.
ولكن هذه المرة في ترينداد وتوباغو قمة أميركا اللاتينية والكاريبي يجد أوباما نفسه مضطراً للكشف عن انطلاقة جديدة عنده أولاً وليس عند غيره من دول أميركا اللاتينية. فها هو يصافح شافير، ويأمر برفع القيود المفروضة على سفر الأمريكيين الكوبيين وتحويلات أموالهم، ويعترف لصحف من أميركا اللاتينية بأن أميركا لم تسع إلى الحوار مع جيرانها، ولا حافظت عليه. وكانت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون قد قالت: إن السياسة التي اتبعتها أميركا مع كوبا حتى الآن كانت فاشلة. وبناء عليه نصل إلى حقيقة يمارسها أوباما الآن وهي أن كل ما اتبعته أمريكا من سياسات كانت فاشلة وسبب ذلك هو جريها وراء خطاب القوة الإمبراطوري الذي شجعها عليه اللوبي الصهيوني الذي يعمل لمصلحة إسرائيل وليس لمصلحتها.
ومما كان أوباما قد أبداه في زياراته إلى العالم حتى هذا المؤتمر في ترينداد وتوباغو هل سيكون لأوباما مدخل جديد نحو استراتيجية أميركية تجعل من العدل الدولي المعيار الوحيد؟ ومن حقوق الأمم المدخل الوحيد، وها هو يواجه في فلسطين المحتلة عنصرية نتنياهو وليبرمان في رفض الحلول المتفق عليها من مدريد إلى أنابوليس، ومن تهديد أمن المنطقة والعالم، ومن إفشال مهمة جورج ميتشل قبل أن تبدأ بهذه التصريحات برفض حل الدولتين. نعم ليس أمام أوباماً سوى أن يدخل هو أولاً في حقبة العدل الدولي وعدم الكيل بمكاييل حتى يقنع العالم أنه سيحدث تحولات من شأنها إخراج العالم من أزمات استعصت منه.