أنا الخليع فقوموا
إلى شراب الخليع
ذاك أن الناس كانوا يلقبون الشاعر أخذاً من لفظ أو فعل، كما دعي «المتنبي» أخذاً من تنبئه، وكما لقب مسلم بن الوليد بصريع الغواني لقوله:
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا
وتغدو صريع الكأس والأعين النجل
وعلى الرغم من أنه كان شاعراً موهوباً، فقد كان ظريفاً بين الشعراء، وشاعراً بين الظرفاء...
وقد عاش الحسين حياة طويلة عريضة، حتى ذكر أنه عاش 115 سنة.. وفي الأقل مئة وخمس سنوات، حسب التقويم الهجري(1).
الأمين الأحدب إليه والواثق اصطفاه
والثابت أنه عايش تسع على الأقل من الخلفاء العباسيين، على اختلاف مكانته وكرامته بين خليفة وآخر... وإذا كان قد مدح هؤلاء جميعاً، إلا أن الأمين كان الأحب إليه، كما أن الواثق اصطفاه.. وأراده أن يكون مناوباً في وجوده في قصره، كل وقت وكل ليلة.. وكثيراً ما كان يستدعيه في السَّحَر..
ولئن كان الحسين بن الضحاك، قد ولد في أواسط القرن الهجري الثاني، وتوفي أيضاً في أواسط الثالث.. واتصل بالخلفاء بدءاً بهارون الرشيد، مروراً بالأمين والمأمون، والمعتصم والمتوكل والواثق، وانتهاءً بالمستعين، وكان من رفاقه ومحبيه ابن آخر لهارون الرشيد هو صالح بن هارون، فهذا يعني أنه عاش العصر الذهبي للخلافة العباسية، بكل ما انطوى عليه من ترف ورفاهة، وقوة وسؤدد، وبكل ما كان يجيش في قلب المجتمع من تيارات فكرية وفنية.. ومن مجون وخلاعة أيضاً.
وإذا كنا نذكر جيداً أن الدولة بلغت من القوة حداً مدهشاً أيام الرشيد الذي خاطب غيمة ذات يوم بقوله: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك، وفي زمان المعتصم بطل معركة «عمورية» وسواها.. فإن ثمة جانباً آخر عاشه المجتمع في تلك الحقبة، متأثراً بالوفرة والاستقرار من جهة، وبما هب عليه من تيارات ونزعات وأزياء، نتيجة الاختلاط بالعناصر غير العربية.. من جهة ثانية ذاك هو طلب اللهو والشراب والمجون..إلى درجة التهتك في بعض الأحيان.
الحسين ورفاقه وارتجال الشعر
وكان الحسين ورفاقه يغتنمون أي سانحة لقول الشعر، وربما اخترعوا المناسبة اختراعاً، فقد خرج أبو نواس ومسلم بن الوليد والحسين بن الضحاك والعباس بن الأحنف إلى متنزه ومعهم يحيى بن المعلى الطائي، فأدركتهم صلاة المغرب، فقدموا يحيى للصلاة، فأرتج عليه في سورة «الإخلاص»: قل هو الله أحد... وبعد أن فرغوا من الصلاة تنادوا للشعر، في هذه الهفوة، فقال أبو نواس:
أكثر يحيى غلطا في: قل هو الله أحد
وقال مسلم بن الوليد:
قام طويلاًَ ساهيا حتى إذا أعيا سجد
وقال الحسين بن الضحاك:
كأنما لسانه شد بحبل من مسد(٢)
العصر الذهبي للشعراء.. أيضاً
.. بلى.. كان عصراً ذهبياً للشعراء أيضاً.. وليس كمثل الحسين بن الضحاك من يمثل هذا العصر بين الشعراء..
رأي عميد الأدب العربي
في كتابه «حديث الأربعاء» يعقد الدكتور طه حسين فصلاً ممتعاً حول الحسين بن الضحاك وشعره يقول فيه: «شاعر ظريف - شديد الظرف، ربما انقطع نظيره في شعراء العصر العباسي كله، وهو مع ظرفه وإسرافه في المجون قليل الفحش في اللفظ، غيرُ متهالك على القول الآثم والألفاظ المنكرة، وهو على ظرفه ورقة حاشيته وحرصه على نقاء اللفظ وطهره، شاعر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة.»
وليس أدل على مكانة الحسين بن الضحاك الشعرية حتى في زمانه من قول شاعر عاصره، هو علي بن الجهم: «دخلت يوماً على المتوكل وهو جالس في صحن «خلده» وفي يده غصن آس وهو يتمثل بهذا الشعر:
بالشط لي سكن أفديه من سكن
أهدى من الآس لي غصنين في غصنِ
فقلت إذ نُظِما إلفينٍ والتَبسا
سقياً ورعياً لفأل منكما حسن
فالآس لا شك آس من تشوقنا
شافٍ وآسِ لنا يبقى على الزمن
أبشرتماني بأسباب تجمعّنا
إن شاء ربي ومهما يقضه يكن
وكاد ينشق حسداً
.. فلما فرغ من إنشادها قال لي- وكدت أنشق حسداً- : لمن هذا الشعر يا علي؟
فقلت: للحسين بن الضحاك يا سيدي، فقال لي: هو عندي أشعر أهل زماننا، وأملحهم مذهباً وأظرفهم نمطاً، فقلت وقد زاد غيظي: في الغزل يا مولاي. قال: وفي غيره، وإن رَغْمَ أنفكِ، ومتَّ حسداً(3)».
الهوامش
(1)- يرى الزركلي في الأعلام أنه عاش بين سنتي (162 - 250 هـ = 779 - 864م) ويذكر أن أبا نواس متهم بأخذ معانيه في الخمر «قيل أصله من خراسان. ولد ونشأ في البصرة وتوفي ببغداد».
(2)- نديم الخلفاء - تأليف: عبد الستار أحمد فراج - سلسلة «اقرأ» - دار المعارف الكتاب رقم 109 - تاريخ: فبراير 1952.
الصفحات: 8-9-10-11-108
(3)- المصدر السابق- ص 54