المتابع لهذه المحطات بإمكانه أن يتعرف ويستمع إلى العديد من شعراء الزجل والشعر الشعبي والنبطي - النثري والتراثي, وكل هذا في أجواء تغص بالمشاهدين الذين وما إن ينتهي أي شاعر من إلقاء ما لديه, تراهم يسارعون إلى التصفيق الحار, ما يجعلنا في حالة إعجاب وامتنان لأن الشعر ما زال بخير.
لا شك أن هذا دليل حضاري وخطوة نحو الرقي والتطور وتسخير الأموال لمنفعة الوطن, رغم أننا وفي كثير من الأحيان نستهجن ونستنكر ما نسمعه من أشعار يقدمها بعض المشاركين الذي لا يلاقون الرفض والسخرية, بل الدعم والتشجيع, وهذا بحد ذاته دليل عافية ثقافية شفيت من سيطرة حمى غزو الخيبة العقلية, ولكن, ألا يدفعنا هذا التساؤل, لماذا بعد الكم الهائل من المحطات الفضائية التي تغزو شاشاتنا بكثافة, ويخصص الكثير منها للأطفال, للأخبار, للأفلام, للرياضة والتعليم والمسابقات والأغاني والتسلية, لا نجد محطة واحدة تخصص أو تعنى بالأدب والفن والإبداع?!
تحديداً ما يهمني إلقاء الضوء عليه, هو المحطات السورية التي باتت في وقتنا الحالي تتسابق في زحفها لكسبٍ يكتسح كسب المحطات الأخرى, لا لكسب إعجاب ورضى المشاهدين.
ألا يوجد لدينا في سورية (أم الحضارات) وعاصمة الثقافة هذا العام, ثقافة وإبداع, ألا يوجد شعراء وفنانون مبدعون? ألا يوجد شبان يقارعون اليأس بعد أن فشلوا في محاولة إثبات الذات, تلك التي سقطت إهمالاً أمام أبواب أصحاب المراكز المحصنة من جدوى الكلمة والإبداع.
لم يعد الأمر يتعلق بالتمويل, السبب الذي كان عائقاً في وجه التقصير ذات يوم, فالسبب الآن هو سباق الحضارات الراقصة حتى أشد حدود الابتذال والتخلف, ننغمس فيها إمعانا بسيطرة مجتمعات الضياع واللامبالاة على راية الكلمة بشرف الحضارات ورفعتها.
يا للألم, بل يا للفجيعة يستشعرها مبدعونا, وما أكثرهم, وما أجهلنا بهم? بل يا لليأس الذي يسكنهم وهم يرون غالبية المحطات العربية تنقاد وراء ما تصدره إلينا مدن الرعب والموت والحقد, من إجرام وخيال وعشق رخيص, يجعلنا عرباً بهوية مزورة الانتماء, عرباً بكل معنى استهلاكنا كشعوب مستلبة العقول حتى إشعار بالهزيمة.
إذن.. فليعرف من لا يعرف أو من لا يريد أن يعرف أو من استهواه الانغماس في عوالم خارقة القدرة على محق الإنسان واستيطانه باسم العولمة والحضارة, بأن ما يصدره إلينا الغرب من أفيون البرامج ليس سوى أسلحة دمار عقلي وبشري شاملة يدسها في محطاتنا العربية التي لم تعد واحدة منها تخلو من صراع الموت وزعيق الرعب وسلطة الخيال, وذلك حتى استلاب آخر إنسان عربي قابع أمام الشاشة بانتظار دوي يفقده أشلاء الذاكرة ويرميه مبعثراً على هامش البلاهة.
أخيراً أقول, لدينا الكثير من المبدعين, أصحاب العقول القادرة على دحر زعمهم بتخلفنا, وبإثبات أننا الأصل في الثقافة والمعرفة والحضارة, فلماذا ندعهم يستعمروننا عقلياً, ولماذا هذا الاستسلام الذي يجعلنا في حالة سلام مع هشيش المحاولة ورايات الابتذال?!