قدمت له الأخت.. و الأخت هذه مذيعة تلفزيونية جميلة كانت تتعثر بين الكلمة و الكلمة و لا تكاد تستطيع أن تتهجى كلماتها إلا بتسبيلة عيون.. تساءلت حينئذ: لماذا إقحام هذا الاسم وماذا قدمت له الأخت..? و كان الجواب من أحد الأصدقاء: هذه موجة جديدة في عالم الأدب و المتأدبين أن يقدم فلان لفلان أو لفلانة أو فلانة لفلان.. بمعنى آخر هذا نوع من الشد و الجذب لبضاعة قد تكون جيدة المضمون و قد لا تكون ونوع من لفت الانتباه إلى أن هذا الكاتب أو ذاك لديه شبكة علاقات أو معترف به من هذا المقدم أو تلك..
على كل حال الظاهرة ليست جديدة على الاطلاق, و لا تدل على جانب واحد, بل لها جوانبها الايجابية و السلبية و إذا أردنا أن نقف عند حديها, فإن بالإمكان القول إن ثمة دور نشر بدأت منذ فترة من الزمن تلجأ إلى أسماء مرموقة في عالم الأدب أو الفكر أو في الاختصاصات كافة و تحيل إليهم ما يردها من كتب لتقييمها و إبداء الرأي فيها, و على التقييم يكون القبول أو الرفض, بعض هؤلاء المستشارين إن صحت التسمية أعجبهم الأمر فصار كل واحد منهم يكتب على الغلاف راجعه ودققه وقدم له فلان: مع الإشارة إلى أن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل إذ جذبت العملية الاعلانية المجانبة بعض أصحاب دور النشر ممن يفكون الحرف و صار بعصهم يمهر اسمه على غلاف كل كتاب يصدر من داره, فهو المدقق و المراجع للكتاب التراثي و الديني و السياسي و الابداعي, بحسبة بسيطة لو أنه تفرغ فقط لمراجعة ما دون اسمه عليه مراجعاً و مدققاً لاحتاج الأمر منه سنوات.. فكيف له أن ينجز هذه الأعمال كافة و في فترة زمنية قصيرة.?
مختصون بالتقديم..
ثمة أسماء معروفة على الساحة الأدبية تفرغت لعملية التقديم و كتابة ما يسمى ( الاستهلال ) و لا سيما للحسناوات و في مراجعة بسيطة لما يصدر عن دور النشر- عذراً مكنات الديزو- نجد أن أدباً جديداً نما و نشأ و كأنه الطحلب على أشلاء كائن آخر يمكن أن نسميه بظاهرة : ( أدب التقديم) و غالباً ما يأتي التقديم لمجموعات شعرية نسوية يتحدث عنها كاتب المقدمة بلغة المصطلحات العامة و الشاملة, فهذه الشاعرة خلعت عباءة التخلف و ها هي تجترح من مفردات اللغة الميتة مفردات كأنها الحجر المتقد و ما إلى ذلك من كلمات و معانٍ متداولة.
و بعد المجموعات الشعرية و هي البضاعة الاكثر رواجاً تأتي المجموعات القصصية, أما الروايات فهي حتى الآن بعيدة عن هذه الظاهرة وربما لقدرة الكاتب على الإبداع, أو لأن الذي يقدم ليس لديه الوقت الكافي لقراءة الرواية و تعرف شخصياتها , بينما في المجموعات القصصية و الشعرية يقوم بجولة سريعة على العناوين و ثمة مقبوسات توضع و تؤخذ على أنها شاهد على صحة ما يذهب إليه و ليكن بعد ذلك ما يكون.
حين كان التقديم نبوءة
على الطرف الثاني من الحالة نجد الوجه الحقيقي للتقديم, إذ يعمد ناقد أو أديب معروف برصانته و مكانته الى كتابة مقدمة لعمل أدبي لأديب يأخذ بيده لما يرى فيه من ملامح الابداع و العبقرية وفي هذا المجال يمكن للمتابع أن يقف عند محطات كثيرة في تاريخ الأدب العربي والعالمي..
نعيمة و جبران..
يكتب ميخائيل نعيمة مقدمة جميلة لأعمال جبران و فيها يقول: يطوي العبقري من خلال عمر واحد أعمار أجيال سبقته, و أجيال رافقته و أجيال تأتي بعده ليحيا و يحيا غيرها ليموت.. و يحيا العبقري في قلوب الأجيال لأنه يعطي آلامها الخرساء ألسنة من نار و يمد آمالها المعقدة بأجنحة من نور. و يختم بالقول: هكذا جاء مثال ( ملك البلاد وراعي الغنم ) خاتمة صامتة لثورة عنيفة جامحة, مباركة هزت الأدب العربي هزاً قد حمل لواءها قلب محب فسيح و فكر إنساني جبار, و خيال نفاذ وثاب وروح موقع أجمل التوقيع لخير ما في الكيان البشري من أشواق حراقة وحنين أبدي إلى الانعتاق من القيود و الحدود للخطوة بحرية المعرفة التي لا توصف و لا تحد.
العجلاني و نزار قباني..
كتب مقدمة ديوان نزار الأولى : قالت لي السمراء د. منير العجلاني و مما قاله في هذه المقدمة : لا تقرأ هذا الديوان فما كتب ليقرأ لكنه كتب ليغنى.. و يشم و يضم و تجد فيه النفس دنيا ملهمة نزار لا أسألك لا أسال الله إلا شيئاً واحداً أن تبقى كما أنت طفلاً يصور و يغني و يعشق:كأنه ملاك يمشي على الأرض و يعيش في السماء لا تطلب الشاعر الخالد, فإن الشاعر الخالد الذي يعيش في المجامع العلمية والمكتبات الأثرية يجر وراءه في الطريق الصحراء القاحلة و عفونة جماعة من أغبياء المعلمين أما أنت, فإنك تمر مرور الموكب الملكي أو الملائكي.
حنا مينة و سعيد حورانية
( و في الناس المسرة ) مجموعة قصصية للأديب الراحل سعيد حورانية صدرت عام 1953 م كتب لها تقديماً حنا مينه قال فيه, يقولون: إن من البيان لسحرا فلا بأس أن نضيف أن من البساطة لسحرا. أخي سعيد عفوك عني كدت أنساق مع عاطفتي فأدعك و أتحدث عن نفسي يجب أن أقول إن عنوان كتابك حملني على أجنحة غير منظورة و انتشلني من حاضري و نقلني إلى مستقبلي.. ثم أوقفني في دائرة ضوئية تحت حزمة وهاجة من الفكر الانساني.
تذييل الكيالي لديوان ابراهيم ناجي..
من اللطائف التي يمكن الوقوف عندها في ديوان ابراهيم ناجي الصادر عن دار العودة / بيروت/ 1980 م. وجود دراسة نقدية كتبها سامي الكيالي وقد سماها تذييلاً,وهي تقديم نقدي جميل يقول الكيالي: و الواقع أن قصائد هذا الديوان تصور تصويراً بالغ الروعة أيام محنته و بؤسه وفترات حبه و أشواقه و تواجده و لا سيما في الأيام التي قضاها مع ( زازا ) الحسناء الرشيقة و الامرأة الشابة الطروب التي أحبت ناجي من الأعماق و كان الأدب هو الذي ربط بين قلبيهما..
أكرم زعيتر و بدوي الجبل..
أما ديوان بدوي الجبل الصادر عام 1978 م فقد كتب مقدمته أكرم زعيتر الذي توقف عند محطات هامة في حياة بدوي الجبل و استغرقت من الديوان ستين صفحة , وهي من المقدمات التي تقدم إضاءات حقيقية وتعطي خلاصة علاقة و صداقة قامت بين زعيتر و بدوي الجبل. و يختم مقدمته بالقول : و بعد فلا يقدم الشاعر مثل شعره, و هذا ديوانه فحي على الشعر, حي على الشعر.. شعر بدوي الجبل.
أدونيس و باشلار ..
من الكتب المترجمة حديثاً كتاب غاستون باشلار : الماء والأحلام دراسة عن الخيال و المادة . ترجمه د.علي نجيب ابراهيم و قدم له أودنيس و بدت المقدمة نصاً إبداعياً محرضاً على الابداع و العطاء ومما قاله: ( هل نحلم إذاً باللغة العربية و مائها تتفجر فيها صور الموجودات و تذوب ماهياتها التي جمدها ( العقل العملي ) من جهة و العقل التعليمي من جهة ثانية تذوب في ماء الخلق, و بدءاً من ذلك تتغير العلاقات بين الكلمات و الأشياء و يدخل العالم في كونٍ من الصور الجديدة).
قول على قول..
و إذا كنا بدأنا الحديث بالكلام قبل الكلام, فحريّ بنا أن نقول: إن ثمة مقدمات حقيقية أضاءت على الأعمال الابداعية و قدمتها للقراء و كشفت جوانب جمالية ربما لم تكن لترى, و ليس بالضرورة كل تقديم من اسم كبير سيعبد الطريق أمام ناشىء ما لم يكن في الجعبة شيء حقيقي.