فبين متطلبات الحياة المعاصرة وإغراءاتها اللامحدودة من جهة، والحدود التي تفرضها الإمكانات المادية من جهة أخرى، يقع الكثيرون بين نارين، ناهيك عن فنون الإثارة والتحريض التي تمارسها وسائل الإعلام من خلال عزفها على وتر رغبات الإنسان وتطلعاته نحو الرفاهية، لتجعله مستهلكاً من الطراز الرفيع.
فالأزمات الاقتصادية على المستوى الأسري، اختبارصعب يواجه الكثيرون في حين يتفاوتون في طريقة مواجهتها، فهناك من يضيف لهذه الضغوط ضغوطاً أخرى بسبب سوء التصرف وعدم التخطيط، وهناك من يحتاط ويتصرف بحكمة، محققاً التوازن بين النفقات والدخل الأسري، فيبحر بأسرته نحو بر الأمان.
قيم اجتماعية سلبية
يؤكد بعض الاقتصاديين في المنطقة العربية أن الإنفاق الاستهلاكي في المجتمع العربي لم يعد هناك مهرب منه، وذلك ((لأننا أمة غير مدخرة ومظهرية، بمعنى أن معظم الانفاق يذهب إلى الاستهلاك، كما أن أحد أسباب انخفاض الادخار العائلي، هو ترسيخ قيم اجتماعية سلبية مثل"اصرف مافي الجيب يأتيك مافي الغيب" وأن الرجل الكريم هو الذي ينفق كثيراً على الاستهلاك وأحياناً لسلع ربما لا يكون محتاجاً لها لمجرد أن الآخرين في محيطه الاجتماعي يمتلكونها)).
استنزاف مادي ونفسي
قد يلجأ الكثيرون وخاصة أصحاب الدخل المحدود، إلى الاقتراض من البنوك أو الشراء بالتقسيط، تلبية لمتطلبات عائلية أو شخصية، يقول محمد الجابري- موظف: ((صحيح أن سداد القرض يلتهم نصف الراتب ويربك الميزانية، ولكن لا مفر، متطلبات البيت والأولاد لا تنتهي، فمثلاً شراء غسالة أو براد أو كمبيوتر، لا يمكن سداد ثمنه دفعة واحدة، وكثيراً ما أنتهي من قرض لأبدأ بسداد غيره، وهذا يستنزفني مادياً ونفسياً، لذلك سأحاول ترشيد مصروفاتنا وضبطها للخروج من هذه الدوامة)).
إغراءات تدعو للإحباط
أمام إغراء السلع الكثيفة المتواجدة في الأسواق، يجد الإنسان نفسه منساقاً رغماً عنه لممارسة لذة الشراء، ولكن غلاء الأسعار فرض اتباع سياسة التقشف والتقطير التي تؤدي أحياناً للأذى النفسي، تقول ديمة- مهندسة: ((أضع لائحة شهرية من الأشياء الضرورية لظهوري بالشكل اللائق في مكان عملي، فأتوجه للتسوق بعد قبض الراتب، ولكني سرعان ما أعود أجر أذيال الخيبة، بعد معرفة الأسعار، فكل شيء ضروري، ومستحيل أن ألغي راتبي لشراء جميع احتياجاتي، فأشعر بالكآبة والإحباط وأحياناً أقتنص فرصة التنزيلات والتي غالباً لا تلبي أو ترضي ذوقي، لذلك لا بد من القناعة)).
الانطلاق من الضروريات
لم يعد يقتصر غلاء المعيشة على فئة اجتماعية دون أخرى، نظراً لتطور أساليب الحياة، فالأسرة المعاصرة لها متطلبات مغايرة للآباء والأجداد، يقول علي اسماعيل- مدرس: ((أحاول مواجهة متطلبات الحياة بالتخطيط والتدبير، وترتيب الأولويات والانطلاق من الضروريات، كتعليم الأبناء ومصاريف الأكل واللبس والعلاج وفواتير المياه والكهرباء والهاتف، ونؤجل ما هو ثانوي كالنزهات والهدايا والدعوات الاجتماعية، التي ترهق الميزانية، وأدعم المصروف بإعطاء الدروس الخصوصية والتي ترفد الميزانية بمبلغ لا بأس به، وما يفيض ندخره لقادم الأيام والأزمات)).
بعيداً عن الإسراف والتبذير
هي شعرة واهية بين التدبير والتبذير، وهذا بلا منازع زمن التدبير، الذي يفرض إعادة النظر بسلوكياتنا وعاداتنا الاجتماعية ورسم استراتيجية لميزانيتنا، تقول السيدة فاتن- موظفة: (( كثيراً ما تتهم المرأة بالتبذير، ولكن هذا لا يشمل كل النساء، فالمرأة المدبرة، تستطيع أن تساعد زوجها على إدارة المصروف بالحكمة والابتعاد عن الإسراف والتبذير، وتربية الأولاد على الوعي والقناعة، خاصة وأن المغريات تحاصرهم من كل حدب وصوب كالإعلانات التلفزيونية والطرقية، لذلك نشاركهم في جلسة تنظيم الميزانية الشهرية حتى يكونوا على علم ودراية بإمكانياتنا المادية، فلا يطلبون شيئاً يفوق قدراتنا)).
خطط بعيدة المدى
من المعروف في مجتمعنا كثرة المناسبات الاجتماعية والأعياد الخاصة والتي تستدعي نفقات إضافية، لذا لا بد من خطط بعيدة المدى، تجنباً للإحراج، يقول عبدالله- خ- أستاذ جامعي: ((الأعياد والمناسبات لاتأتي مفاجئة، وكثيراً ما تجتمع أكثر من مناسبة في شهر واحد، لذلك علينا أن نستعد مسبقاً، فمثلاً أنا منذ بداية العام الدراسي أخصص مبلغاً يومياً أدخره لهدية نجاح بناتي، كما أخطط منذ الآن ورغم صغر سنهما لدراستهما الجامعية، وأتجنب القروض والديون التي تستنزف جزءاً كبيراً من الراتب)).
اتباع سلوكيات رشيدة وواقعية
وعن رأي أهل الاختصاص، يقول الدكتور طلال عبد المعطي مصطفى- أستاذ علم الاجتماع- جامعة دمشق: إن تغير النمط المعيشي، وضع الكثير من الأسر وجهاً لوجه أمام متغيرات استهلاكية جديدة، تتطلب مصروفات إضافية، هذا إلى جانب غلاء الأسعار، ما أدى إلى إضعاف ميزانية الأسرة، فأصبح من الصعب السيطرة على المصروفات، إضافة إلى الميل المتزايد لاقتناء الكماليات التي تفرضها الحياة العصرية، فأصبح رب الأسرة مجبراً على مسايرة المجتمع نحو الاستغراق في الأنماط المعيشية الاستهلاكية، في حين لايجد وسيلة مناسبة لتوفير ما يكفي لمواجهة النفقات المتراكمة والمتزايدة.
ويتابع د. مصطفى بقوله: اختلال ميزانية الأسرة سيؤدي حتماً إلى ظهور بعض المشكلات الاجتماعية المؤثرة في استقرار العائلة واستمراريتها كالخلافات والنزاعات الأسرية والعنف والتفكك، كما تنعكس الآثار على سلوكيات الطفل والمرأة كانسياقهم نحو الاستهلاك غير الرشيد، والذي يصل أحياناً إلى حد الهوس وإدمان الشراء.
والحل يمكن باتباع سلوكيات رشيدة وواقعية تتناسب وطبيعة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وتنمية الوعي لدى الأبناء، وعدم الانجراف وراء الأنماط الاستهلاكية التي ترهق الميزانية العائلية وتثقلها بالديون والأقساط، والتخطيط للأمور المالية من قبل جميع أفراد الأسرة والتصرف بعقلانية بعيداً عن الارتجالية والعفوية، كما ينبغي التخلص من القيم الاستهلاكية السيئة والابتعاد عن عادات البذخ والتباهي والتفاخر في المناسبات الاجتماعية، على ألا ننسى دور وسائل الإعلام في مجال تنمية الوعي الاقتصادي والاجتماعي لدى أفراد المجتمع.