هكذا اعتقد بورخيس في عام ,1979 أي قبل زمن قصير من اختراع (الريسيفر) وجهاز تحكمه الخرافي, الذي يتيح لمشاهد (عربي مثلاً) متكىء على مرفقه في قصر أو شقة أو خيمة أن يتنقل ليختار ما يشاء من 5400 ساعة بث متاحة له يومياً باللغة العربية من 225 محطة ومئات آلاف الساعات باللغات الأخرى.
هكذا إذاً, صار كل ما في هذا العالم يحدث كي ينتهي في برنامج تلفزيوني, كل شيء وخاصة الكتب, كتب بورخيس التي ألفها أو قرأها أو لم يقرأها.
منشقون ومتآمرون كثر عبر التاريخ اغتالوا زعماء وقادة, وانتهوا إلى مصيرهم المحتم:
أبطال حلقات من برنامج اسمه (أشهر الاغتيالات السياسية في التاريخ).
مناضلون أو مشاغبون اعتقلوا وخطر لهم أن يكتبوا مايشعرون به, واعتقدوا أنهم بذلك يتركون وثيقة للأجيال, لكن تبين في النهاية أنهم فعلوا ذلك كي ينتهوا في سلسلة اسمها (أدب السجون).
جنود من عدة دول تنادى قادتهم ليدحروا هتلر بدءاً من النورماندي, انتهوا في حلقة واحدة من برنامج اسمه (يوميات الحرب العالمية الثانية).
سمك السلمون بدوره طور خلال ملايين السنين رحلة سنوية يقوم بها من مسقط رأسه (ككائن فرد) إلى مسقط رأسه (ككائن نوع) واستطاع بذلك أن ينتهي في برنامج علمي تنتجه قناة ديسكفري باللغة الإنكليزية, وتقوم محطات أخرى (بدبلجته) إلى لغاتها.
خاض عنترة بن شداد معاركه كي ينال عبلة (كما كان يعتقد) لكنه في الحقيقة خاضها كي يصبح جديراً بتنافس شركتي إنتاج سوريتين حول من التي تسبق بتحويل حياته لمسلسل تلفزيوني, بعد وفاته بخمسة عشر قرناً.
تعد روزا ياسين حسن كتاباً عن الجانب الإنساني في تجربة النساء المعتقلات وهناك أكثر من شخص ينتظر على أحر من الجمر ليقرأ الكتاب, لا لأهميته ولكن ليحدد الطريقة الأفضل لتحويله إلى برنامج تلفزيوني.
مع قليل من الاستثناء لم تعد الكتب تجد من يقرؤها سوى معدين ومخرجين وكتاب سيناريو يبحثون عن موضوع فيلم تسجيلي جديد أو مسلسل درامي جديد.
السينما تنتج الأفلام باستمرار, لتعرضها على شاشة قماشية فضية ساحرة, لكنها تنتهي أيضاً على شاشة العشرين بوصة, بعد زمن يقصر باستمرار (أصبح سنتين من تاريخ الانتاج).
غرقت سفينة التيتانيك في عام ,1911 وانتهت أيضاً على شاشة التلفزيون, وربما باستثناء أنها عبرت السينما لبعض الوقت, والنجاح الكبير الذي حققه فيلم التيتانيك, رافقه نجاح آخر لبرنامج تلفزيوني اسمه (كيف صنع التيتانيك) رصد كواليس صناعة الفيلم وقد حصل هذا البرنامج على جوائز ونجاحات, جعلت فريقاً آخر في محطة أخرى يعد برنامجاً اسمه ( كيفية صنع كيف صنع التيتانيك).
روايات نجيب محفوظ تحولت (قبل نوبل وبعدها) إلى مسلسلات تلفزيونية, قصص إحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم, وروايات حنا مينة وخيري الذهبي, وحياة نزار قباني واسمهان, وتجربة سيد مرعي (وزير زراعة عبد الناصر) مع الإصلاح الزراعي, تفجير الخبر,الزلزال الذي شكل تصدعات تلال تورا بورا,تبديل الأفعى لجلدها في الربيع, طريقة الزواج الغريبة في جنوب ليبيريا, أسلوب نبيل سليمان في شراء الكتب, ترميم الجامع الأموي مضار الباذنجان من وجهة نظر مريم نور, وفوائد اليانسون من وجهة نظر ضيوف منير الجبان, تجرع سقراط للسم, مفهوم الدالاي لاما لما بعد الموت, رجال أغبياء يذبحون شقيقاتهم بدافع الشك, جولة نانسي عجرم في المدن الامريكية.. كل شيء كل شيء تقريباً يحصل كي ينتهي على الشاشة.
في الطبيعة هناك هرم غذائي تتوضع فيه الكائنات فوق بعضها حسب معيار بسيط: من يأكل من , ويأتي الإنسان في قمة هذا الهرم لأنه يأكل كل شيء في البحر والجو والأرض.
والتلفزيون بات يحتل المكانة ذاتها ويتربع على قمة هرم تتناثر على حوافه كل وسائل التعبير وطرق تخزين التجارب والأفكار والأحداث.
إن لم تكن الفضائيات قد قدمت لنا كل شيء في هذا العالم, فلنمنحها بعض الوقت, لأنها ستفعل بالتأكيد, فها هي تتابع طرقها دون أن تأخذ نفساً, وتلتهم كل مافي هذا العالم, لتعيد تقديمه لنا بلغتها ومنطقها ومشيئتها.