أقل تعقيداً مما تسعى بعض الأوساط الإعلامية وحتى السياسية الأوروبية للإيحاء به. وصلت رايس إلى أوروبا في رحلة سياسية دقيقة بدأتها بألمانيا لتقودها إلى رومانيا وأوكرانيا وبلجيكا. وتهدف بالدرجة الأولى التأكيد على عدد من الخيارات المحددة بالنسبة لإدارة الرئيس بوش في تعامله مع شركاء واشنطن من الأوروبيين. وتخص هذه المحاور مستقبل العلاقات الأوروبية الأميركية ومتابعة التنسيق في مجال مكافحة الإرهاب وتوجهات واشنطن في أوروبا الشرقية ومستقبل أداء حلف شمال الأطلسي إلى جانب الملف العراقي وآفاق التعاون الأوروبي الأميركي فيه.
وتعتبر المحطتان الأوكرانية والرومانية الأكثر حيوية للإدارة الأميركية لأنها تخص شريكين جديدين متحمسين لواشنطن يتمتعان بقدر كبير من الأهمية لتمرير الخيارات الاستراتيجية للبيت الأبيض في أوروبا القديمة. وتوجه واشنطن عبر تحالفها المعلن والوثيق مع بوخارست وكييف رسالة واضحة لدول غرب القارة وخصوصاً المانيا وبلجيكا بأن مرحلة جديدة من إعادة بناء التحالفات الأوروبية الأميركية ربما قد حان, وإن واشنطن تجد في الدول الجديدة التسهيلات ذاتها وربما بشكل أفضل مما كانت تتمتع به حتى الآن في غرب أوروبا ومقابل ثمن باهظ. قررت رومانيا, التي تدور شكوك كبيرة بشأن تورطها الفعلي والمباشر في إقامة معتقلات سرية لحساب وكالة المخابرات المركزية الأميركية, تمكين واشنطن من قاعدة عسكرية حيوية فوق أرضيها. وتسعى رومانيا التي ستنضم للاتحاد الأوروبي, خلال عام ونصف العام من الآن, إلى أن تعوض تدريجيا الحاجة الأميركية إلى المانيا ودول أخرى مثل تركيا, وعلى المدى المتوسط ضمن رقعة التحالفات الشائكة والمعقدة القائمة بين ضفتي الأطلسي أو التي يجري نسجها وتبدو رومانيا القريبة من منابع الطاقة في القوقاز ومن الشرق الأوسط والخليج على حد سواء,أحدى الأوراق السياسية الرئيسية في أيدي الولايات المتحدة. وهي بديل مؤكد يقوي سياسة الهيمنة الأميركية بالبدائل المتاحة ويعتبر قربها من العراق عاملاً حيوياً في تركيز خبراء الحلف الأطلسي على مكانتها. كما أن أوكرانيا وهي إحدى المحطات الرمزية التي وقفت كونداليزا رايس فيها, تمثل وهي تحتفل بالذكرى السنوية الأولى للثورة البرتقالية, ضد أنصار روسيا, اختراقاً متصاعد الأهمية بالنسبة لواشنطن وتحديداً بالنسبة لمجمل التعامل مع الفضاء الروسي الحالي. وأمام هذه المعطيات المحددة المفيدة فإن الجوانب الأخرى من زيارة وزيرة الخارجية الأميركية تبدو أهمية نسبية لوح عدد من المسؤولين الأوروبيين, ولكن دون إلحاح عشية زيارة المسؤولة الأميركية بأنهم سيثيرون معها دون شك إشكالية الرحلات السرية والمعتقلات غير المعلنة التي قد تكون وكالة المخابرات المركزية أقامتها أو نفذتها في عدد من الدول الأوروبية. وفي الواقع فإن قضية الرحلات والمعتقلات السرية الأميركية في أوروبا تطال جميع دول الاتحاد الأوروبي دون استثناء. وتشمل الرحلات الدول الأوروبية الكبيرة مثل فرنسا, المانيا, وبريطانيا بشكل مؤكد, ولكنها تطال أيضاً الدول الأخرى مثل السويد وفنلندا شمالاً إلى اسبانيا والبرتغال جنوباً مروراً بدول صغيرة مثل بلجيكا ولكسمبورغ وهولندا والدانمارك. وبلغ عدد هذه الرحلات أكثر من أربعمائة رحلة حسب آخر التقارير. ويفسر تورط جميع الحكومات الأوروبية بما فيها تلك التي تعلن بتكرار ممجوج حرصها على السيادة والاستقلال, مثل فرنسا, الحذر الكبير من قبل المسؤولين الأوروبيين في متابعة هذه التطورات. تزامنت جولة وزيرة الخارجية الأميركية إلى القارة مع تصعيد الدول الأوروبية لإجراءاتها ضمن إدارة أزمة الإرهاب وتشديد الخناق على الجهات العامة. واعتمد الاتحاد الأوروبي في مطلع كانون أول ,2005 حزمة غير مسبوقة من الإجراءات المحددة تطال للمرة الأولى تسجيل المكالمات الهاتفية والمراسلات الالكترونية وتشديد الرقابة على دور العبادة وتسهيل إجراءات الابعاد وما إلى غير ذلك من الخطوات التي تخترق قواعد ومفردات حقوق الانسان .
ذلك أن الاختراق الأميركي للإجراءات الأمنية الأوروبية قد أصاب الأمن الأوروبي بالفزع. ويؤكد الدبلوماسيون الأوروبيون إن الوزيرة الأميركية رايس أمام هذه المعادلة الأوروبية لم تواجه أية متاعب خلال رحلتها في أوروبا وإنها وصلت القارة بخطة مفصلة ومحددة تتمثل في إقناع الأوروبيين بأنهم ركبوا السفينة التي ركبها الأميركيون أي أن التصدي للإرهاب يسمح بكافة الخطوات التي تعتبرها الأجهزة الأمنية ضرورية لاحتوائه, وهو ما يبرر بالتالي الخروق المحتملة في هذا الملف.
ولا شك أن الترغيب والترهيب الأميركي الموجه للحكومات الأوروبية الحساسة إزاء ما يسمى النشاطات الاسلامية الإرهابية المستندة إلى عداء متزايد قد لعب دوره في السيطرة على الموقف. ووعدت واشنطن خلال الأسابيع الأخيرة بالرد على التهم الموجهة إليها في ملف الرحلات السرية وتحديداً الإجابة عن استفسارات محتشمة وجهها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو, فيما أعلنت بريطانيا عن عدم استخدام الأراضي البريطانية مواقع للسجون الأميركية, وإن الإجراءات الأميركية أمر قانوني. فالرأي الرسمي البريطاني يرى أن العلاقات الاستراتيجية البريطانية الأميركية والأهداف المتطابقة والعمل المشترك لإعادة الاستعمار الاحتلالي لبعض البلدان العربية و الإسلامية تحت اسم مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية, تمنع بلير بحكم معاداته للعروبة والاسلام, من الخوض في هذا الموضوع. فالموافقة البريطانية وهي كما يبدو على عولمة سجون غوانتانامو وتفهم الإجراءات السياسية الأميركية المتفق عليها بين البلدين تدل على وقوف لندن إلى جانب واشنطن وأن موقف بريطانيا يفتقر للجدية. ولكن من البديهي أن الحكومات الأوروبية التي تطالب بهذه التوضيحات كانت دون شك على علم بما يجري فوق أراضيها ومن هنا تركز واشنطن هلى هذا التناقض الأوروبي. ولا يبدو منطقياً أن الحكومات الفرنسية والبريطانية والالمانية ذات الأجهزة الأمنية القوية مثلاً لا تعرف ما يجري في مطاراتها وفي أجوائها. ويرد المسؤولون الأميركيون أنهم احترموا بشكل مستمر, سيادة الدول الأوروبية أي أنهم يمتلكون في الواقع أدلة على تورط الحكومات الأوروبية معهم. وتبدو الخشية الرئيسية الحالية في أن تتحول مسألة الرحلات السرية إلى مواجهات سياسية داخلية, قد تفجر أزمة داخل أوروبا خصوصاً في بريطانيا, إلى جانب حصول تصدع مؤسساتي بين الهيئات الأوروبية وخصوصاً بين المفوضية والبرلمان وحكومات الدول الأعضاء لقاء بروكسل بين وزيرة الخارجية الأميركية والوزراء الأوروبيين كان معبراً عن واقع الحال الأوروبي حيث أن الرد الأميركي ربما أخذ طابع اللوم للأوروبيين, هذه المرة وتذكيرهم بأن واجبهم وضمن إدارة الحرب ضد الإرهاب والتصدي للمخاطر الناجمة عن ذلك, يتمثل في شرح أبعاد معركة الإرهاب للرأي العام الأوروبي وليس توجيه أصابع الاتهام لواشنطن يبدو أن السياسة الأوروبية لا تريد التركيز على الرحلات السرية أو المعتقلات غير المعلن عنها في أوروبا, وعلى الجانب الخاص بعمليات تعذيب أميركية فعلية لرعايا أجانب في أوروبا لذا فإن لا أحد يتوقع مرونة فعلية في موقف واشنطن, وهذا يدل على وجود تواطؤ بين أوروبا وأميركا غير معلن في هذا الصدد. ويردد الأميركيون أنه لا يمكن إجبارهم على تبرير عمل غير مؤكد ولا توجد إثباتات محددة بشأنه. ويقول أحد الدبلوماسيين: إن الهامش الأوروبي محدود حيث ينتقد الأوروبيون السياسات الأميركية في مجال مكافحة الإرهاب علناً لكنهم لم يحددوا منهجاً واضحاً يضمن إرساء قاعدة محددة لحماية الحريات العامة وحقوق المعتقلين, ويقلل من الضغوط المتصاعدة من الرأي العام الأوروبي. ولم يحرك الأوروبيون في الواقع ساكناً طيلة السنوات الأربع الماضية, حتى أمام تأكدهم الفعلي من أن واشنطن اعتقلت في غوانتانامو وخارجه رعايا يحملون جنسيات أوروبية, وبعضهم من الأوروبيين الأصليين. كما أن الدول الأوروبية مجتمعة وجدت في إدارة أزمة الإرهاب الحالية أفضل سبيل لتحويل انتباه الرأي العام الأوروبي, عن المصاعب الفعلية, التي يواجهها الاتحاد على الصعيد المؤسساتي وغرقه في أزمة اقتصادية مزمنة وتراجع أدائه الخارجي في أكثر من ملف ووصول سياسته في مجال الاندماج والتعايش المتعدد الثقافات إلى طريق مسدود. ما يجعل المشهد السياسي في أوروبا تمثيلية محبوكة. وتمثل أزمة الإرهاب, الملف الوحيد حالياً الذي يوجد إجماع أوروبي بشأنه, إضافة إلى ملف الهجرة السرية. لا توجد حالياً أية إرادة أوروبية تؤمن في تعكير صفو العلاقات الأوروبية الأميركية والعودة بها إلى مرحلة التوتر التي رافقت اندلاع الحرب ضد العراق, حيث لم تعد أوروبا ترغب في هزيمة أميركية أو حتى انتكاسة لواشنطن في البلد العربي المحتل, خصوصاً المانيا بعد الانتخابات الأخيرة, وفرنسا التي تواجه تعقيدات داخلية, جراء ثورة الجيل الثالث من المهاجرين الذين هبوا في ضواحي باريس دفاعاً عن مصالحهم وكرامتهم, ومنافسات حزبية, تطمح في لعب أي دور ريادي على صعيد العلاقات الدولية, إذاً لا جديد على الجبهة الأوروبية الأميركية ويمكن لبوش أن يواصل مراهنته على أصدقاء مطيعين.
سفير سابق