ونحن نتراجع كما لو كنا لا شيء?!
يتطور الغرب بمتوالية (هندسية) بينما يتخلف العرب بنفس الوتيرة إلا قليلاً !!
فهل في ذلك ما يؤكد نظرية المركزية الأوروبية وأن (الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان)?.
أشك في ذلك كل الشك وإن اتهمني المتشائمون بالقصور العقلي ووصمني المرجفون بالغباء التاريخي..ويلوح لي أن من حق هؤلاء وأولئك توصيفي(بالقصور والغباء) وفقاً لجدلية صدام الحضارات التي اتخذت أشكالاً عدوانية حيناً وإرهابية حيناً آخر,إضافة إلى ما تحمله في طياتها من مورثات مستقبلية?!وقد يسأل سائل بصيغة غير متوازنة:
هل يتقدم الآخر لنتراجع نحن,أم نتراجع نحن ليتقدم الآخر?!!
أعتقد لا هذا ولا ذاك وإن كانت صورة الواقع العربي والغربي تتقارب مع التساؤل الآنف الذكر,وأسارع إلى اعتماد منطق التاريخ وأبجدية الحضارات مؤكداً أن الآخر يتقدم لأنه يريد ذلك وبمزيد من الإصرار وقد (برمج) نفسه على هذا المنطلق ولديه الأدوات والطاقات التي من شأنها جعله قادراً على المضي في هذا المسار.
وبالمقابل,فنحن نهوى التقدم ونرغبه بلا منطق ولا (برمجة) ولا إصرار مع أننا نمتلك أكثر مما يمتلك الآخر على صعيد الطاقات من نفط وغاز ومعادن ومواد غذائية ,وإمكانيات وتراث حضاري سابق,نمتلك الحد الأدنى من أدوات التقدم على الصعيد العلمي والتقني كما أننا قادرون على اعتمادها واكتساب ما يمكن اكتسابه من الآخر.
ولكننا لم نبرح دوائر الهوى والرغبة ,حتى الآن نحن نتطلع إلى هدف بعيد ,حكمنا في ذلك حكم من يتمنى العروج إلى السماء على منطاد بلاستيكي.
ولهذا يكاد يكون الإنسان العربي اليوم في حيرة من أمره..إن لم نقل محكوم عليه معايشة هذه الحيرة ومعاناتها, ,مع أنه يحتضن الأصالة في وجوده السرمدي على طول امتداد الأزمنة,لكنه بنفس الوقت يحمل على كاهله ركاماً ثقيلاً من الزيف والمأساويات التي زرعت في أعماقه,سواء ما فعله بيده عن طريق مصادرة الحقيقة المطلقة من قبل هذا الفريق أو ذاك والعمل على إلغاء من هم أشقاء له في الثقافة والتاريخ ,أو بما فعله به الآخرون من زحوف هولاكو وجنكيز خان وتيمورلنك ومروراً بالزحف الأوروبي في العصر الحديث,وانتهاء بجحافل الحديد والنار عبر الغزو الأمريكي منذ نهايات القرن العشرين وحتى يومنا هذا..
كل ذلك رسخ في بنية التركيب النفسي والعقلي للإنسان العربي تناقضات عنيفة تكاد تكون عصيّة على الاستحمام في ينابيع الشفافية والصفاء وإذا كانت مقولة الجدل الهيغلي (ففي النفي اثبات) ليست صحيحة في معظم الأحيان وفقاً لنظرية (هاينر بيرغ) واللاحتمية في الطبيعة أو علائق الارتياب كما بالنسبة للنظرية النسبية,فمن تحصيل الحاصل عدم تحققها بإطلاق على المستوى البشري للأفراد والجماعات,وهذا يعني استمرارية الحيرة والارتباك وتغلغل مزيد من التناقضات في عمق الوجدان العربي الراهن ما لم يضع قدماً ثابتة على معالم الطريق ,ومعالم الطريق تقتضي بالضرورة الخروج من دوائر التناقضات وصولاً إلى ساحة الرؤية الواضحة أو الأكثر وضوحاً على أقل تقدير..
والسؤال الذي يطرح نفسه بشكل أكثر إلحاحاً من أي يوم مضى:ما السبيل إلى فرز تلكم التناقضات ووضعها بين قوسين والخروج من (دواماتها) التي تمتد وتتسع ككثبان من الرمال تذروها الرياح السافيات?!
وقد يسارع أحدنا إلى القول مع المفكر الاجتماعي رالف والاس:الأمس ماض والغد احتمال واليوم الآن.
بيد أن هذه رؤية تحمل في طياتها هامشاً من الصحة على المستوى الفردي ,أما على المستوى الاجتماعي فالأمر مختلف كلاً وتفصيلاً,لأن الأمة,أية أمة لا تولد ولا تتكون ملامحها ومعالمها إلا عبر أمسها الذي مضى,وهذا يعني أن مجرد نظرتها إلى الأمس على أنه عهد مضى ولم يعد له شأن في حاضرها ومستقبلها فذلكم هو عنوان اقتلاعها من جذورها وزحزحة الأرضية الصلبة التي تقف عليها.وإذا كان هذا المفهوم ينطبق على كل أو معظم الأمم المعاصرة,فإنه أكثر التصاقاً والتحاماً بأمة الضاد,لأن تاريخها هو ثقافتها وحضورها ومستقبلها..ولعل خطوتنا الأولى على دروب التقدم تكمن في فهم ذلك التاريخ وتقييم ذلك التراث بمنطق العقل والعلم معاً,الأمر الذي يتطلب منا إعادة نظر شمولية فيما هو كائن اليوم لإقامة الجسر الذي يساعدنا على الخروج من الدوائر اللولبية المنسوجة بالحيرة والضياع بقدر ما هي منسوجة بالتناقضات وسبيلنا إلى ذلك التماس المحاور الأساسية لولادة حضارات الأمم الغابرة تواصلاً وتوظيفاً لمعطيات الحضارة الغربية ومدنيتها,بدءاً من توليف الشقاقات وما تستبطن من تناقضات وخلافات ووضعها تحت مظلة الحماس الحضاري ,حماس معرفي وحماس أخلاقي وحماس ثوري وحماس وطني على هدى محورين أساسيين هما:
منطق العلم ومنطق العقل,وإذا كان منطق العلم من شأنه اخراجنا من بدائية الاستيراد المعرفي إلى موقع التوليد المعرفي جنباً إلى جنب مع الآخر , فإن منطق العقل كفيل باغتيال ما يمكن اغتياله من ركام التناقضات المخيم علينا,والغاء تهميشها على أقل تقدير باعتبار الأمة التي تعد العدة للرحيل إلى المستقبل لا وقت لديها للانشغال أو التشاغل بنزاعات أفرزتها مصالح سياسية وهفوات شخصية ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا شك أن صرحنا الحضاري الذي استطاع هدرجة الايديولوجيات والثقافات والفلسفات والأعراق هو أكثر قدرة اليوم على إسدال ستار كثيف على تناقضاتنا الوهمية والتي وظفها الآخر لتكون اسفيناً مسموماً في جسدنا.
وإذا كان الغرب الأوروبي تمكن وبكل بساطة من وضع حروبه الدموية موضع التناسي والنسيان وإقامة وحدة القارة العجوز رغم عدم تجانسها اللغوي والعرقي والتاريخي وحتى الاجتماعي,فنحن أكثر جدارة بلم شتاتنا باعتبارنا أمة التوحيد المطلق وأمة التاريخ الواحد والمنطق اللغوي الواحد والتوجه الثقافي الواحد,اضافة إلى أننا ذوو تكامل اقتصادي استراتيجي وتظللنا منظومة لوائح قيم مشتركة.
ولهذا لا يسعني سوى القول وبمزيد من الحسم..يتقدم الآخر وما زال لأنه ابتغى العلم طريقاً والحماس الحضاري هدفاً وستبقى المسافة بعيدة بيننا وبينه, بل هي إلى مزيد من الاتساع ما لم نتخذ من العلم منطلقاً,ومن الحماس الحضاري هدفاً.فهل نحن فاعلون.