اللقاء الأول كان في أيلول / 2005 / .. المكان مكتبة الأسد الوطنية , محمود درويش يوقع لأول مرة ديوانه في دمشق . في بهو المكتبة , فاح عبق زهر اللوز .. و كان شاعر فلسطين الكبير أبعد من أن أصل إليه , فأجري معه و لو لقاء قصيراً , لأن حشوداً كبيرة كانت تنتظر اللحظة التي ترى فيها وجهه ,
المئات جاؤوا ليرسم لهم الشاعر توقيعه على ديوانه ( كزهر اللوز أو أبعد) و مع حبر قلمه ذرفت دموع كثيرة فرحاً بلقياه , لكن الشاعر الفلسطيني عندما رأى المشهد بدا و كأنه يحلق بجناحين منهكين و نبض قلب متعب من زمن مثقل بالانكسار . اللقاء الثاني , كان في دار الأسد للثقافة و الفنون في 26أيار/ 2006 / الشاعر الكبير في دمشق لحضور حفل تأبين الراحلين العجيلي و الماغوط .. في مساء ذلك اليوم أعاد شاعر الأرض المحتلة بكلمته اشتعال الحزن من جديد إذ قال : ( أعترف بأنني أواجه صعوبة كبيرة و حرجاً من الجمع بين كبيرين شاءت الأقدار أن تجمعهما في رحيل واحد , المكان أعاد إلى ذاكرة درويش, يوم وقف لتأبين ممدوح عدوان , يومها حضر الماغوط صورة شاحبة وصوتاً متهدجاً , و عندما ذهب لزيارته في اليوم التالي فوجىء بصحفي يسألهم : هل جئتم إلى الماغوط لحضور جنازة مبكرة فتحسس كل واحد منهم قلبه و تلعثم , إلا الماغوط لم يكن سؤال الموت لديه سؤالاً , ففي كل كتابة - يقول درويش - نصر صغير على الموت .. و هزيمة صغرى أمام نوائب الحياة , تقول للشاعر هذا لا يكفي فما زالت القصيذة ناقصة) .
الشاعر محمود درويش وقف في تأبين ثلاث قمم كبيرة في دمشق , و اليوم نقف نحن لنرثيه , و نقول له الكلام عينه , القصيدة لا تزال ناقصة , و قد رحلت عنها مبكراً , و أنت الذي آمنت بإمكانية أن يكون الشعر سلاحاً ,و أن على القصيدة أن تكون واضحة و مباشرة , آمنت أن أفضل شيء في الحياة أن تكون شاعراً و رغم أنك كنت تعرف عذاب الشاعر ففي كل مرة تنهي فيها ديواناً شعرياً كنت تشعر أنه الأول و الأخير .
قلبك الكبير أصيب بنوبة 1984 , و أجريت له عملية أنقذت حياتك , بعد أن توقف لدقيقتين أعطيت بعدها صدمة كهربائية , يومها رأى الشاعر نفسه يسبح فوق غيوم بيضاء , تذكر طفولته كلها , استسلم للموت , وعندما شعر بالألم عاد إلى الحياة . و المرة الثانية , كانت عام 1998 .. و فيها كانت النوبة قتالاً , فرأى الشاعر نفسه في سجن , و الأطباء من حوله رجال شرطة يعذبونه , لكنه قال : أنا لا أخشى الموت ., الآن اكتشفت أمراً أصعب من الموت , فكرة الخلود , أن تكون خالداً هو العذاب الحقيقي . لم تكن حينها لدى الشاعر الكبير مطالب شخصية من الحياة لأنه كان يرى أنه يعيش زمناً مستعاراً , لم تكن لديه أحلام كبيرة , لأنه كرس نفسه لكتابة ما عليه كتابته قبل أن يذهب إلى نهايته , و هو الذي كان يرى أن الموت الحقيقي لحظة يتوقف المبدع عن الكتابة . محمود درويش .. لمَ تركت القلم وحيداً ?! لماذا ترجلت وتركت حصان القوافي وحيداً .. الأرض تناديك من جذورها , فما زالت القصيدة ناقصة , و لاتزال الأحزان و الجراح مستمرة , و أنت الذي حملت جراح الأمة و صغتها رسائل إلى القلوب , تركتنا في حالة حصار , كلماتك لا زالت تحاصرنا, تقلقنا , لكنها لن تكون عابرة أبداً .. لأنهم هم العابرون في كلام عابر .. وتبقى أنت سيد الكلام و عاشق فلسطين و العرب .