تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«فوبيــــــا» الإبـــداع... هـــــل أصـــــابت كتّـــــاب الروايــــــة الواحـــــــدة؟!

ثقافة
الخميس11-6-2009
لميس علي

(عالـــم الفـــن شـــاسع، لكـــن حياتنـــا قصيـــرة) غوتـــــه. ذات غفلة عن تخدير عالم الإبداع.. ذات محاولة للفكاك من أثره المدوخ، اعترف يوماً الطيب صالح مجاهراً،

وكأنما تسربت إليه مقولة غوته تلك، يعلل سبب إدباره عن عالم الأدب، فالكتابة تسرق صاحبها من الحياة.،. تخدعه.. تراوغه ممارسة إغرائها الخاطف، حتى ليكاد ينسى أن يحيا..‏

وعلى مايبدو نجا الطيب صالح بنفسه قاهراً هذا الإغراء، مديراً ظهره لشهرة، لم تتأت له إلا من سحر رواية الكلمة..‏

صاحب (موسم الهجرة إلى الشمال) كتب بعضاً من روايات أُخر، إلا أن اسمه بقي حبيس هذه الرواية، فهل كان سجينها بما قدمته له من صيت ذائع..‏

هل يُصاب الروائيون الذي خطوا رواية واحدة لكن استثنائية، بما يسمى (فوبيا الإبداع)..‏

وكما لو أن رواياتها الفريدات اليتيمات التي كانت السبب الأبرز والأقوى في تصعيدهم إلى سماء الشهرة، مارست بذات الوقت حصاراً خفياً لم يتمكنوا من اختراقه.‏

الغريب اللافت أن هذا الحصار مارسه كتاب واحد... رواية واحدة على البعض ممن لم يستطيعوا التخلص من متاهة جاذبها. بقيت أسماؤهم طيلة حيواتهم قرينة تلك الأعمال وفقط.‏

النتيجة وبكل بساطة، تحيلك أسماء أبطال إلى أسماء مبدعيها.. الغجري هيثكليف يذكرنا مباشرة بـ (إميلي برونتي)..هولدن كولفيلد، يقترن باسم (جيروم ديفيد سالنجر) ومصطفى سعيد بطل (موسم الهجرة) يعيد خيط الذاكرة إلى (الطيب صالح)، أما توم روبنسون في (قتل الطائر المغرّد) فيرتبط بـ (نيلي هاربرلي).‏

شخصيات نمت وترعرعت في أحشاء روايات، جميعها حققت شهرة ورواجاً ومبيعاً عالياً.. وتصدر البعض منها قائمة أعلى المبيعات، رواية هاربرلي اعتبرت من أشهر الكتب المئة في القرن الماضي.. و(موسم الهجرة) بدورها تُرجمت إلى إحدى وعشرين لغة وفاقت مبيعاتها أي عمل آخر على المستوى العربي.‏

وإن كان الموت سبباً مباشراً، منع برونتي كاتبة (مرتفعات وذرينغ) كما شقيقتيها شارلوت وآن، من الاستمرار في ممارسة موهبتها الأدبية الفذة، مثلما يعترف بتلك الموهبة كبار دارسي الأدب الانكليزي.. فإن أسباباً أخرى خفية غير جلية منعت آخرين من ممارسة جنون الأدب.. أتراهم أحياء ما اختاره الطيب صالح من الانكفاء بعيداً عن مخاطر الإبداع.. إنها قرائحهم لم تجد عليهم خيراً من أعمالهم تلك الوحيدات... الفريدات.. المؤثرات..‏

نعم هي رواية واحدة قلبت موازين الحياة لدى بعضهم، وحققت مالم يحققه آخرون طيلة حياة حافلة بالنتاج الأدبي والوافر.. أتراها الموهبة الصارخة لدى أقلامهم.. أم تراه الموضوع المعالج والفكرة المطروحة بين صفحات الرواية..‏

في معرض الحديث عن رواية هاربرلي يقول وينسترك أحد دارسي الأدب الأميركيين:‏

(المؤلفون الكبار يكون لديهم أحياناً مجرد فكرة واحدة، وحين يعبرون عن تلك الفكرة ينتهون ككتاب).‏

هناك فكرة واحدة وحيدة تسيطر على المرء .. يفرغها.... متحرراً منها. يعبر عنها على هيئة رواية، كماحدث مع هاربرلي المولودة في مونروفيل عام 1926م في أعماق الجنوب الأميركي في زمن بلغ فيه الفصل العنصري أوجه. تروي في كتابها حكاية رجل أسود اتهم زوراً باغتصاب امرأة بيضاء، تأتي التهمة بدافع عنصري، وتروى القصة من منظور الطفلة البيضاء التي كان والدها (اتيكوس فينش) هوالمحامي الذي دافع عن الرجل البريء (توم روبنسون).‏

(لي) التي عاشت أحداث الممارسات العنصرية ضد السود في أميركا.. فعاشت تلك الذكريات داخلها حتى تمكنت نهاية من تسجيلها في كتابها الذي اعتبر ضميراً أدبياً في العدالة والمساواة بين الأجناس البشرية، وتم تدريسه لطلاب الثانويات الأميركية وموضوعاً يتكرر للمحاضرات، مكّنها (قتل الطائر المغرد) من الفوز بجائزة البولتيزر الأدبية، قالت مرة بعد النجاح السريع الذي تحقق لها..‏

(لقد كنت آمل أن أحظى بالقليل من التشجيع، ولكنني حصلت على كل شيء، فكان هذا مخيفاً بقدر ماكان سريعاً يشبه الموت الرحيم).‏

إذاً هو موت لكنه رحيم من وجهة نظر (هاربرلي) التي اختفت مكتفية بماقالته في روايتها، فانسحبت من عالم الأضواء وأقصت نفسها..‏

كما فعل جيروم ديفيد سالنجر، وإن تكن هاربرلي سجلت لمرحلة صعبة عاشتها بلادها، فإن سالنجر استهل بعمله (الحارس في حقل الشوفان) ما عُرِف لاحقاً بكتابات الغاضبين أسوة ببطله الغاضب دوماً (هولدن كولفيلد) الفتى الساخط، الناقم، الذي يعاني قرفاً لاوصف له من مجتمعه الأميركي حيث الزيف والنفاق بأقصى درجاتهما.‏

يطابق الكثيرون مابين سالنجر وبطله (هولدن)، فهروب هذا الأخير من المدرسة يعكس حالة الهروب المتكررة من المدرسة التي مارسها الروائي..‏

وكما حلم البطل بالعيش بعيداً في كوخ في أقصى غابة، أنهى مبدعه حياته نافراً من المجتمع الأميركي في غابة، رفض بل أصرّ سالنجر على عدم كتابة رواية ثانية، هو الذي اشتهر بقصصه.. (لن أعطي لنفسي هذا الحق، أضاف أن هولدن كولفيلد سيغضب عليّ).‏

سحب صفات البطل على المبدع أو العكس تأكيداً لتشابه مابينهما، هوماقام به أيضاً بعض النقاد ليس فقط بالنسبة لسالنجر، وإنما بالنسبة للطيب صالح كذلك، وعلى رأسهم رجاء النقاش الذي رأى أن هناك تشابهاً مابين الطيب صالح وبطله مصطفى سعيد في (موسم الهجرة).‏

هل يومىء ذلك أن كاتب الرواية الواحدة لربما لم يكن إلا كاتباً لحكاية هي حكايته، وأن بطله هو ليس سوى نسخة روائية عنه..‏

وإن لا.. فلماذا قصروا ونأوا بعيداً بأنفسهم مكتفين برواية واحدة وبطل واحد.. وكيف نفسر غزارة إنتاج آخرين يقفون على النقيض من هؤلاء من حيث كمية نتاجهم.‏

ماركيز أبو الواقعية السحرية على الرغم من عمره ومن وضعه الصحي ومما أشيع حول توقفه عن الكتابة، يعلن أن ذلك غير صحيح وأن (الصحيح هو أنني لا أفعل شيئاً سوى الكتابة).‏

أُحجية الكتابة يقوى البعض على حلها، بل و جعلها بتركيبة خاصة، يضعون هم أنفسهم لغزها المحير.. كما لغز ماركيز غزير الإنتاج.. عربياً هناك ابراهيم الكوني برصيد يزيد عن الستين كتاباً..‏

على أن حل تلك الأُحجية ليس وقفاً أبداً على (الكم).. هي ضربة معلم حققها البعض بحصيلة (بطل واحد.. نموذج أوحد) سواء، عانوا فوبيا الإبداع أم تحرروا منها..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية