ولا أعتقد بأن أحداً يملك هواية التصدي لمجرد الهوى أو المزاج, لكنها الحالة الإلزامية وهي في علم التاريخ وفلسفة المجتمع الوضع الطبيعي للخروج من المأزق الخانق, ونستذكر جميعاً حكمة مبسطة تقول : إن الشعوب لا تسكت عن ضيم أبداً وهي تمتلك خاصية الاختزان والاختزال بحيث تتوضع فيها كل معاني الدروس الصعبة وتحتفظ بذاكرتها الواعية بسجل حي للأحداث قد لايعبر عن وجوده بالصراخ أو الامتداد العاطفي ولكن السجل حي مخزون وقد استقر في الذاكرة الجمعية واكتسب من خط سير الأحداث أبعاداً جديدة تلح على فكرة البلورة والانتظار حتى لحظة النضوج.
وفي حياة الشعوب لا مكان للركام المهمل, هناك تراكم يراه الإنسان العادي خامداً ويراه المتبصر طاقة تتململ وناراً تحت الرماد, وأعتقد أن قانون رد الفعل عند الشعوب يبدأ من مواصفات هذه اللحظة, فحينما تتكالب الظروف الصعبة وتتحرك التحديات إلى عمق مصير الأمة يكون الأمر قد استنفد فرصه الكاملة وأصبح من الطبيعي والواجب أن تمسك الشعوب بمقاديرها وتجري التداول السياسي بوعي الخبير وعفاف المظلوم وطاقة الإنسان الحرّ.
ويتطور الوضع مرحلة أخرى فالأنظمة السياسية استغرقها الحذر والاستسلام وتهيأ لها من خلال شروط اللحظة السلبية أن الوضع الراهن هو نهاية المطاف وهذا مايحدث فصولاً جديدة من تراكم الألم والوعي ومطارح جديدة من إغراق النظام السياسي في التجاهل وخدمة التحديات والقوى الخارجية, عندها تتكون في منطق الظرف السائد احتمالات شديدة الحرارة حيث تضم الصورة النظام السياسي وجماهير الشعب ومابينهما في الغد والرواح ممارسات المعتدين ومشاريع القوى الاستعمارية وعند هذه الحدود تتخلق مستويات مختلفة من التعامل بين المواقع ويمكن رصد هذه المستويات تنظيمياً وتوصيفياً بالحالات التالية:
أولاً - ازدياد في درجة الاستهانة بالشعوب والضغط عليها ومحاولة افتتاح جراح غائرة جديدة في الجسم الشعبي.
ثانياً- ومن الطرف الآخر من المعادلة الصعبة تتكاثر بمعدل فوضوي مستويات الاستهانة بالأمة من الخارج وإطلاق دفعات التكالب على داخلها يصبح المستعمر عندها منتشياً بما يراه في الداخل العربي وبصورة ميكانيكية يطلق أهدافه ومعاييره بطريقة اغتنام الفرصة السانحة والظرف الصعب.
ثالثاً- ثم تفترض حضورها الحالة الشعبية وهي تكتوي بنار الحدث القائم تسدد فاتورة الدم وتقدم من التضحيات مايتفوق على الوصف والتوقع في حالات كثيرة, أطفال يتحولون إلى مقاتلين وفقراء معذبين في الأرض يفصحون عن مواقف تبدو أسطورية, أمهات يقدمن فلذات أكبادهن للوطن وآباء يقدم الواحد منهم الشهيد والشهيدين والثلاثة من أبنائه, والصورة ليست ناضبة وليست متفردة, إنها مجرد إشارات عن تكامل يتحقق ليستقر بعد ذلك منطق الموقف الشعبي بكل مشاهده وأدواته وبطولاته. نعلم تماماً أن هناك جوقات وشرائح من الذين اختاروا لأنفسهم الفرجة وأدمنوا لعبة تصوير المشاهد وتعداد الشهداء, هؤلاء مجرد كميات من البشر لاستكمال صورة الرداءة وتسهيل خيارات الظالم من الخارج والداخل فبعض منهم تجار مستغلون, أقول البعض, وبعض منهم مسؤولون فاسدون, أقول البعض, وبعض منهم له أسماء طنانة رنانة, إعلامي, مثقف, صاحب تنظيم وهنا أيضاً أقول البعض, إن الصفة المعادلة لهذه النماذج تأتي من خلال كونهم شهود زور ومروجي أزمات ومستغلي ظروف.
هؤلاء يميلون مع الريح حيث تميل ويتغير حالهم مع تغير الأحوال, ترتفع درجة حرارتهم فتراهم كالعاصفة في السينما, وتنخفض درجة حرارتهم حتى لكأنهم زواحف قطبية لم يعد لها إلا تراكم الشحم والورم وممارسة هواية العض المتبادل.
صار المشهد الآن شبه متكامل, وقد آثرنا استخدام حيثياته في اللحظة الراهنة وهي التي تقوم على قاعدة البدء بالمسؤولية الشعبية عن كل مايجري في وطننا العربي من قبل أعداء الخارج والداخل, هنا اللحظة تصبح قدرية بالمنسوب العاطفي وتصبح موضوعية بالمنسوب العقلي نظراً لأن الواقع قد أشبع تجريحاً واستهانة, ونظراً لأن الصبر الجماهيري نفد هو واستنفد أغراضه من الجهتين الخارجية والداخلية.
ولقد صور آباؤنا وأجدادنا هذه اللحظة بأنها خيار مابين الموت والموت والموت الأول تسليم الرقبة للجلاد والموت الثاني تسليم الروح لله على صيغة شهداء ومناضلين, وهكذا كان بعضهم يقول إذا لم يكن من الموت بدّ من العجز أن تموت جباناً, بعضهم الآخر أضاف لمسة قدرية إلهية فمن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد, وفي حقيقة الأمر فإن الصورة تفرض إرادتها ومعناها, هي حالة من استنزاف المصالح والكرامة العربية تحيط بها حالة من الحصار, حصار على الرأي العام في كل دنيا العرب, حصار على القرار السياسي, حصار في غزة من الداخل وحصار إسرائيلي لغزة وحصار عربي لغزة.
وهناك في المدى الأوسع حصار لئيم عقيم تقوده الولايات المتحدة الأمريكية حتى لترى أنه لايجوز إدانة الموقف الإسرائيلي ولو بجملة بروتوكولية لا تقدم ولاتؤخر في قرار هارب من مجلس الأمن الدولي.
إن كل هذا التجويع والترويع, كل هذا البحث عن الموت الجماعي المنظم لأطفال فلسطين لشيوخهم ومرضاهم لنسائهم لا يستحق مجرد جملة تؤشر إلى الجريمة ليس أكثر في مجلس الأمن, إذاً لدينا نطاقات من الحصار وفي عمق الحياة تتكثف الاحتمالات وتضيق مساحة الظرف والواقع عن التفاعلات التي بدأت تتمرد بعد أن نضجت وهنا تركن جانباً تلك الحسابات التي كانت تقوم على أساس الانتماء العربي الشكلي والادعاء بوحدة الحاكم والمحكوم هنا لاسبيل لاحتساب موقف النظام السياسي في أي فعل أو رد فعل شعبي, لعلي وصلت إلى اللحظة التي أطلق فيها المعيار وهو قرار الشعوب بمعزل عن الكره والحقد والتشفي ينطلق هذا القرار ولكنه ينطلق هذه المرة وقد عرى العتبة من التظاهر والهتاف والاحتجاج النظري إلى مرحلة حمل أمانة المسؤولية والمبادرة بالتعامل مع الواقع بمنطق الشعب نفسه وبمواصفات الحدث القاسي الجارح.
لم يكن هذا الذي حدث في غزة مجرد احتمال أو هو نزق شعبي تحت وطأة الحاجة الغريزية من خلال الجوع والدواء والماء, كان الأمر أبعد من ذلك بكثير وأعمق من ذلك بكثير.
إنه صورة اعتملت في العمق على مدى مراحل صعبة للغاية وتشكلت دوافعها بعد أن فقد الشعب كل دافع محتمل عند الآخرين, لقد انطلقت الجماهير في غزة هدمت جدار العزل وسور الموت, صاغت قراراً لم يتنبه له السادرون في غيّهم والباحثون عن الحلول الملفقة, إنه عنوان بسيط عميق وأعمق المواقف أبسطها لزمن آذن بالانبلاج أساسه قرار الشعب وليس قرار الأنظمة السياسية العربية.