والتي انتقل أثناءها من سن العشرين حتى الثامنة والعشرين فكانت سنين حاسمة في تاريخ القرن الثامن عشر الفرنسي.. ففي ذلك الحين ظهر إلى الوجود جيل جديد, فريق بحاله من الشباب المتمردين, والذين هم أحياناً تحت حماية من سلكهم رهباناً وكهنة, يتعلقون بالعلوم والفلسفة, تجتذبهم الصحافة ويتدربون على هدم الآراء المسبقة. الغالبية منهم هم من أبطال الاستقلال الفكري البسطاء والذين رفضوا غالباً -مثلما رفض ديدرو- أن يدخلوا السلك الكهنوتي أو أن يشغلوا وظيفة في الإدارة, مؤثرين تحصيل معيشتهم من تدريس الرياضيات. وسوف ينشر ديدرو عام 1748 (مذكرات) حول موضوعات مختلفة في الرياضيات. ديدرو الذي بدأ حياته المهنية بترجمات عن الانكليزية برز على أنه الأفضل.
ورأى فيه الناشرون وهم أناس عمليون, أنه ضالتهم فقد أظهرت بعض الأعمال التمهيدية في الترجمة على أنه شغيل هائل ومنظم كبير: ترجم المعجم الطبي ضمن فريق ضمه وتوسان وإيدو. وذلك ما يفسر تكليفه والمتعاونين معه, منذ عام 1745 بترجمة السيكلوبيديا الكبرى لايفرايم شامبرز وهي معجم شامل للفنون والعلوم ولاحقاً سينجز موسوعة فرنسية تترك دمغة في تاريخ الفكر البشري. ويعد ذلك بدء مرحلته مع الكتابة حيث طبع كتابه (الأفكار الفلسفية) بالخفاء ثم (المجوهرات الواشية) وهي رواية فاضحة ليست بذات قيمة كبرى. ثم طباعة مذكرات حول مواضيع مختلفة عن الرياضيات وأخيراً عام 1749 رسالة حول العميان لصالح الذين يبصرون.
بدأ ديدرو مع كتابة الأفكار الفلسفية بتوجيه اهتمامه نحو الطبيعة. وسوف يمضي في تعميق فكره. ضمن هذا الدرب عبر تواصل حميم مع العلوم.
لقد ألف الرياضيات فتعود عليها منذ زمن طويل. وتوصل مستنداً إليها إلى حل مسألة المصادفة في عالم الفيزياء. وتقدم ديدرو بالفكرة المبتكرة القائلة بتطور العالم ضمن الزمان, وأنه مر عبر سلسلة من الأشكال المتلاحقة. لقد ظهرت هذه البرهنة في رسالة حول العميان: (كم من العوالم المشوهة والمنقوصة تتشتت لتتشكل وتتبعثر, وربما في كل لحظة ضمن فضاءات مترامية الأطراف, لا أستطيع لمسها أبداً ولا أنتم ترونها. لكن الحركة فيها متواصلة وسوف تواصل التنسيق بين كميات هائلة من المواد حتى الحصول على تسوية ما تستطيع الاستمرار فيها). إن هذا العالم الساعي نحو التنظيم يجد تفسيراً له عبر الحركة, وعبر الواقع الأساسي بأن (المادة تتحول منذ الأزل) وهذه حقيقة (بسيطة) من حقائق المادية ويدخل ديدرو مفهوم المصير في التاريخ الفيزيائي للكون. وهذا قد مضى به دون شك نحو القيام بالمسعى نفسه في العلوم الطبيعية. وبدءاً من رسالة حول العميان شرع برسم الخطوط الأولى لسيرورة التكون رسماً ذكياً, ثم التكيف مع المحيط وانتقاء الكائنات المتعضية وأشار إلى وجود استبدال نوع من الكائنات الحية بنوع آخر. وبيّن أن الإنسان خاضع كالآخرين للشروط نفسها. وقد عرض تلك الأفكار بصورة مضخمة أكثر وحاسمة في (حلم دالامبير) وسوف يكملها أيضاً في كتابه عناصر الفيزيولوجيا.
إن ما جاء في رسالة حول العميان يكفي ليجعلنا نرى في ديدرو باحثاً متقصياً شديد الدقة, وعالماً نفسانياً نافذ البصر, ومجدداً عبقرياً, لقد أدرك بسرعة خاطفة كيف تستطيع الحواس أن يحل بعضها محل البعض الآخر, وكيف تتطور بفعل التركيز والتدريب. فكان متقدماً على كل من الأب دوليبيه وفالنتين هاوي ولويس براي. وذلك باقتراحه اختراع لغة ملموسة يستطيع التواصل عبرها كل من العميان والصم والبكم والناس العاديون.
إنه لأمر ممتع أن يتابع المرء, عبر مؤلفات ديدرو الأولى, مسيرة فكر على طريق التحرر أولاً, ثم بحثه عن مفهوم إيجابي للعالم, وهو مفهوم مادي سيكون الأكثر غنى بين جميع النظريات المادية السابقة للماركسية. وماديته وإيجابيته من حيث إنها تزودنا بأجوبة أو ببدايات أجوبة على المسائل الرئيسة لتاريخ العالم وأنواع الإنسان والمجتمع, أما قوته وصلابته فمردها نزوعه الشديد لأن يكون كاملاً أما وهو يفرض وحدة المادة, فإنه يحرص أيضاً على الاستناد على جميع العلوم تقريباً. آخذاً بالحسبان درجة تقدمها, لهذا السبب نرى أنه ليس سوقياً ولا سمجاً. وإنه لا يفصل الإنسان عن الطبيعة لهذا يعده الدارسون أن عبقريته الجبارة قد أسبغت على الفلسفة في عصره وفي بلاده, معناها كله وكامل مداها. إنها فلسفة ملموسة, فلسفة العلم, فلسفة الأنوار, والفهم المتشدد.
الكتاب: رسالة حول العميان - تأليف: ديدرو, - ترجمة: عبود كاسوحة - صادر عن وزارة الثقافة/ سلسلة آفاق ثقافية