وكلنا مؤقتون أيضاً للأسف
إن نظام الاشياء في حياة الإنسان نظام معقد ومتنوع ومتطور.. فالأشخاص هم أشياء والحيوانات والنباتات هي أشياء ومظاهر.
الطبيعة هي أشياء والمشاعر أيضاً. وكل ما هو قابل للتحول إلى ممكن يمثل درجة نسبية من الحقيقة. ونحن البشر أبناء الخبرة, لأننا نحتوي على قيمة بصورة ما, تساعدنا على التمازج مع الحياة.
إننا ندرك بما نمتلك من أحاسيس أن لكل فرد منا تجربته الخاصة, في العلاقات مع الآخرين, مع البيت والأولاد, مع المرأة, مع الاصدقاء والمعارف, ما من تجربة تشبه الأخرى.. لأن الإنسان, في المحصلة, وليد تجربته في الصراع مع الحياة, مع النظام العام منذ مولده حتى مماته.
تبدأ علاقة الإنسان مع الاشياء بصورة متدرجة, تساهم فيها البيئات المختلفة والمتداولة والمتغيرة, وفي محاولة لفهم القوانين والتكيف معها.
لكن ذلك يختلف من جيل إلى جيل.. مفاهيم الشباب غير مفاهيم الشيوخ.. مفاهيم المرأة غيرها عند الرجل..لكن الجوهر يتجاوز هذه المفاهيم, لأن الجوهر يبقى جوهراً.
فعندما يستوعب الإنسان حيثيات الاشياء وفق تطوره الادراكي إذ يبدأ من الاصغر إلى الاكبر.. ومن الأبسط إلى الأعقد.. ومن الواضح إلى الغامض.. ومن المادي أيضاً إلى المعنوي.. وتظل مجموعة التقابلات عند الإنسان, تصطف, كل خط واحد غير قابل للتناقض.
وهذا ما يكثف أزمة الإنسان مع وجوده والوجود ككل.. إنه يقرر الوجود الحقيقي لمادية الاشياء, كما هي في الواقع, لا يبتدع وجودها, ولا يضيف عليها من تخيلاته, لذلك, ليس هناك فائض للمعاني, اللغة غنية في استنباط المعاني, لكنه, وحده الفنان, القادر على هذا الاستنباط والخلق داخل اللغة.
إن التغيير حتمية يستنتجها دولاب الحياة, أما السكون فيصبح مستنقعاً مليئاً بالديدان والوسخ والرائحة العفنة. هناك أمم ساكنة مثل هذا السكون.. وهناك أمم متحركة, وعبر التاريخ انقرضت الأمم الساكنة, بينما الأمم المتحركة بنت الحضارات, وتوالدت على مر العصور وظلت في المقدمة حتى يومنا هذا, الحركة هي المتحركة مع الحياة, وهي التوالد والاستمرار والبناء.
دائماً, يقول الفلاسفة: التاريخ يعيد نفسه, والإنسان كائن تاريخي, بمعنى أن الإنسان يفهم نفسه, لا من خلال التأمل العقلي بل من خلال التجربة الموضوعية للحياة, ولكي نفهم الحاضر علينا أولاً أن نستحضر الماضي ونفهمه..
هكذا انبنت الحضارات التي لم تتنكر لماضيها بل ربطته مع حاضرها, فالوعي بحتمية التغيير, والتغيير معطى أولي ومهم لدفع المجتمع نحو الانقلاب على قوانين التقاليد, الاستغناء عن السيئ والمسيء منها, وتطوير الجيد وإلباسه لباساً حضارياً.
إن العمل الاجتماعي يكتسب الحقيقة في إحدى أهم مستوياتها أي (القيم) النبيلة لمجتمع راقٍ.. القيم هي الحارس الفعلي للمجتمع الحر الكريم, صاحب حق الإنسان في العيش الكريم والاستمرار نحو حياة زاهية تبتعد قدر الامكان عن الهزيل والمبتذل والساقط ويجب أن نضع في الاعتبار, أن ذلك التناسق هو ناتج العادة وممارستها, وليس ناتجا منهجياً علمياً, وهذا لا يضيع بالطبع حق نص التقليد ومعيار الخبرة.
وفي المقلب الآخر, فإن إنسانية الإنسان هي القيمة العليا في الخطاب اليومي للبشر, هذه القيمة تميزه عن الحيوان, وبيديه يمضي في انشائها وتثبيتها وصيانتها داخل الشخصية التي يؤسس عليها وعيه.
وعلى الإنسان أن يستعلي على المادة, ويسّيد القيم الإنسانية التي تنمي إنسانيته لا حيوانيته, حرمة الأسرة الخلاقة في الأرض وفق أنقى المبادىء والمثل العليا والضابط الديني, وتحكيم منهج الله وشريعته وعدالته في الناس.
وإذا أخذنا المعايير الدينية النبيلة, فلننظر إلى تلك الاخلاق المذهلة في روعتها التي يجب أن نأخذها نبراساً لحياتنا على الدوام.. فقد كان الرسول الكريم (ص) يحسن إلى جاره اليهودي رغم أذيته له, وكان يتصدق عليه ويزوره إذا مرض وعندما توفي (ص) كان سيفه مرهوناً عند اليهودي.
يعني ذلك أنه كانت هناك علاقة تطبيع اجتماعي اقتصادي تمت بين الرسول الكريم واليهودي, فالاسلام لا يحرم أي نوع من أنواع التطبيع مع اليهود (هم أهل الكتاب أيضاً) أو غيرهم من غير المسلمين في حالة السلم.
إن الاختلاف بين الأمم سنة من سنن الحياة, أوضحها القرآن بالآية: (لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة, ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) -الشورى-
إن تحليل وعي الشخصية العربية في العصر الحديث أمر معقد للغاية, ذلك أن الازمات والاحداث المتعاقبة شوهت مفهوم (العربي) حتى باتت سبة تتنكر لها, واصبح العربي في مصر يقول أنا مصري ويؤكد على مصريته, وكذلك الحال في الجزائر, والمغرب, وتونس التي كادت لولا الاسلام, أن تصبح فرنسية..وتكاد اللغة الفرنسية تطغى على اللغة العربية.
وهناك لا يعطلون يوم الجمعة بل الأحد.. كما هو الحال في الغرب.. وينسحب هذا الكلام على بقية العرب.. تصور أن الكويت (أمة) وأن مجلسها اسمه مجلس الأمة, فما هي مواصفات الأمة في مجتمع صغير لا يتعدى المليون, بينما الانتماء إلى أمة تعدادها ثلاثمائة مليون عربي..ما يزيدنا فخراً.
لنتصور هذا الانحدار: إن الصحف باتت تقول في معظم بلدان العرب.. العالم العربي.. وليس الوطن العربي.
نعم.. يجب العودة إلى تاريخ الثورة العربية.. التي قامت لتحرير الوطن العربي كله تحت شعار واحد وعلم واحد.. بينما نحن اليوم تحت اثنين وعشرين علماً.. تفصل بيننا الحدود.. ويوقفنا رجال المخابرات على الحدود وفي المطارات ساعات قبل أن يتأكدوا من أنت ومن أنا.. يا للعار.
الأوروبي الذي خاض حروباً دامية ضد بعضه هاهو الان يتوحد رغم التناقض الاجتماعي واللغوي, وهاهو المواطن الأوروبي يسرح ويتفرج ويقيم حيث يريد في أي بلد أوروبي دون أن يسأله أحد من هو ولماذا اختار الإقامة في بلد غير بلده.
إن هذه الأزمات التي اوصلتنا إلى هذه الحالة من التشرذم, كان علينا خلالها أن نتطلب نوعاً خاصاً من الهوية, يتقارب معها الواقع ويعزل عن وعي الشخصية التاريخية وتشكيل هوية بهذا التوصيف لا يتم إلا عبر حصرية الوعي حول نقطة في آخر الطرف, فكانت القومية محتوى هذه النقطة.
إنني آسف أن يشط بي الخيال من موضوع إلى آخر.. ودائماً خيالي يسبق افكاري.. فأكتب دون رقابة.. لا أسوّد.. اكتب مباشرة ولا أغير شيئاً.. فأتذكر شاعرنا الكبير سليمان العيسى: (أظن أن هذه القصيدة لفخري البارودي)
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان
فهبوا يا بني قومي إلى العلياء بالعلم
وغنوا يا بني أمي بلاد العرب أوطاني
أما الشاعر محمود درويش, فإن شهرته قامت على قصيدته الشهيرة:
سجل
أنا عربي
أنا اسم بلا لقب
صبور في بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة الغضب
جذوري
قبل ميلاد الزمان رست
وقبل تفتح الحقب
وقبل السرو والزيتون
وقبل ترعرع العشب
إلى أن يقول:
أنا لا أكره الناس
ولا اسطو على أحد
ولكني.. إذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
حذار.. حذار من جوعي
ومن غضبي
ولكن, من ينظر إلى الواقع الذي نراه بأم العين الآن.. لشيء مخجل, ننحني للمغتصب ونمحو من الهوية كلمة أنا عربي.