الذي أقيم في محترفه الفسيح في دمشق القديمة فقبل زيارتي لهذا المعرض الاستعادي الضخم ورغم بحثي المتواصل وتنقيبي المستمر , لم أكن قد شاهدت له سوى ثلاث لوحات منشورة في كتاب (التشكيل السوري المعاصر) الصادر عن غاليري اتاسي, ولا بد من الاشارة هنا الى ان بعض لوحاته قد عرضت ومنذ نهاية الثمانينات , في عدة مدن فرنسية, ونشرت في كتاب صدر هناك بالفرنسية. عن دار ثقافات العالم في باريس عام 1989 بعنوان (رموز قماشية) وبعبارة اخرى لوحات مصطفى فتحي وصلت الى الجمهور الفرنسي , ولم تصل الى الجمهور السوري, حيث غابت تجربته عن اهتمامات نقادنا , ولم تنشر له ولا لوحة واحدة في المطبوعات الرسمية المحلية المتخصصة بالفن التشكيلي .
ضمن هذا السياق نتساءل اليوم عن الحاجة الملحة لاعادة كتابة تاريخ تطور حركتنا التشكيلية السورية المعاصرة, بعيدا عن المصالح والمزاجيات والمحسوبيات والعلاقات الشخصية والتي تشير الى فداحة الاخطار, التي تهدد ثقافتنا المستقبلية.
وإلا كيف نفسر غياب متحف الفن الحديث والارشفة الحقيقية لنتاج العاملين والفاعلين في الحركة الفنية التشكيلة السورية.
نتساءل عن اسباب اهتمام الأجانب بنتاج مصطفى فتحي: ونقول الواقع ان لهذا الاهتمام اسبابه الموضوعية, فمعرضه الذي اقامه في عدة مدن فرنسية وانطلق من باريس, شكل وثيقة هامة للدارسين والباحثين الاجانب عن الجوانب الجمالية المتواجدة في المنسوجات المحلية الملونة بألف لون ولون والمعرضة لمخاطر الاندثار والزوال. علاوة على ان مطبوعات لوحاته استوحت تقنيات الطباعة التقليدية اليدوية على القماش واتاحت للاجانب انفسهم الاطلاع على تلك التقنيات وهذا امر ايجابي يساهم في تبادل الخبرات والافكار والآراء.
فالمعرض الجديد استمر لمدة شهرين, وتضمن مجموعة متنوعة من اعماله الحفرية والتصويرية القديمة والجديدة ( أحجام مختلفة ) بالاضافة لعرضه لبعض الاختام الخشبية والفلينية والتي تعطي المشاهد لمحة عن طريقة انجاز اعماله المطبوعة على مساحات قماشية في اغلب الاحيان.
فعلى الرغم من اعتكافه وبعده عن الاضواء والعرض لا يزال مصطفى فتحي في ساعات عمله الطويل يضاعف جهوده لاستعادة عناصر حضارية في مسارها التاريخي والمعاصر.
فهو يدمج في لوحات محفوراته, وفي لوحاته المرسومة ايضاً ما بين الازمنة والامكنة في استخدامه لاشارات ورموز وعناصر الحضارات البدائية والقديمة.
بالطبع هناك لوحات متفاوتة في التعبير عن هاجس استعادة الاشارات التاريخية .إلا ان الانطباع الذي تتركه لوحاته الجديدة, تفيد انه بدأ يعطي تجربته متنفساً يملصه من التكثيف التشكيلي المنمنم الذي ميز اكثرية لوحاته القديمة المعروضة هنا. فالتكوين التشكيلي التجريدي الجديد, الذي يقدمه يجنح في اتجاهه العقلاني والانفعالي,نحو الاختزال والتبسيط , الذي تؤديه ايقاعات كتل الاسود والابيض والرماديات على مسطح اللوحة.
هكذا بدأ يستعيد في لوحاته إشارات ورموز التاريخ الحضاري البدائي, بلغة تجريدية مبسطة , تقع في اطار الرقابة العقلانية, وتترك للحرية والعفوية والانفعال الوجداني مكاناً بارزاً كتعبير عن طاقة الاحساس الحي بالفنون البدائية القادمة من عمق الازمنة, والسائرة في اتجاه واحد مع تطلعات الحداثة التشكيلية, التي عرفتها فنون العواصم الكبرى في القرن الماضي والحالي .
يذكر ان مصطفى فتحي من مواليد درعا العام ,1942 درس فن الحفر في دمشق وباريس, ويمكن اعتباره من جيل الحفارين الطليعيين , الذين انطلقوا في اتجاه البحث التشكيلي المطبوع على مساحات قماشية كبرى اضافة لعمله ولسنوات طويلة في التدريس الفني في قسم الحفر والطباعة في كلية الفنون الجميلة , في دمشق, قبل ان يتفرغ لبحثه التشكيلي والتقني , ويعتكف في محترفه الفرنسي .