نهضت مكانها أبنية برجية سامقة. صارت السيارات الذاهبة والآيبة، تلتف من حول الدار كمالو كانت دوارا لابد من الطواف عنده.
ليس هناك من يمكن أن يتحدث عن عمر تلك الدور التي اختفت على الرغم من أنها لاتختلف كثيرا في نسيجها العمراني عن بيوت المدينة القديمة. كانت جميعها من طابقين الأرضي الذي يضم المنافع والغرف الصيفية والفسحة التي تتوسطها فسقية الماء، وتطيف بها أشجار الكباد والنارنج والأكي دنيا والليمون، والياسمين العراتلي والأبيض والبنغشة والساعة، والعلوي الذي تشتعل فيه المدافىء في الشتاء وتطل بعض شبابيكه على الزقاق،وترى أرض الديار من بعضها الآخر وفوقه كانت «الطيارة» حيث يخلو رب الأسرة بنفسه أحيانا،ويطل على سطوح الجيران وبعض المنازل.أهل الدار الباقية أنفسهم لايعرفون عمرها بالتحديد.كل مايذكرونه أن جدهم لأبيهم عاش بضع سنوات هنا قبل أن يوارى في التراب وبما أن فيها غرفا عديدة فإن أحدا من الأبناء لم يغادرها بعد الزواج. وكانوا يجتمعون كلهم في الأغلب حول مائدة الغداء: الأب الذي تجاوز الستين من عمره والأم التي لاتنبىء ملامح وجهها بأنها ليست أصغر منه كثيرا، والأولاد والكنائن والأحفاد .
ذهل «سايد البلهموتي » حين أبلغه رئيس العمال بما جرى عندما حاولوا النزول بمعاولهم لهدم الدار قال لهم: إنه سيهدمها فوق رؤوسهم ماداموا يرفضون مغادرتها وإخلاءها وقد امتنعوا عن تناول المال الذي قدمه لهم لقاء تسليمها شاغرة .
رفع العامل الأول ذو الذراعين القويين مفتولي العضلات معوله إلى الأعلى يريد أن ينهال به على الجدار فأحس فجأة بصداع شديد سقط إثره أرضا وألقى معوله بعيدا، اقترب معه المتعهد فرآه يكاد يغيب عن الوعي.أشار إلى زملائه فحملوه بعيدا وأمر آخر أن يقوم بالعمل.
كان ثمة أمام الدار عدة معاول ورفوش وقفف.. وأدوات أخرى مختلفة تناول العامل الثاني معولا آخر. لقد شاهد ما جرى لزميله فأحب أن يستعمل معولا آخر كان هذا متين البنيان أيضا أطول قليلا من زميله، وبدت رقبته عريضة تشبه رقاب المصارعين تفل بين كفيه ونظر في تحد إلى المتعهد والعمال الواقفين، ورفع المعول عاليا ففوجىء بأنه لم يعد يستطيع أن يهبط به كأن قوة مغناطيسية خارقة جعلت يده تتيبس في الهواء فتقف لاترتفع ولا تنخفض وتحتاج إلى قوة حقيقية لإنزالها.
في ذلك النهار توالى على الحركة ثلاثة عمال آخرين فعجزوا واحدا إثر آخر عن الاقتراب من جدار الدار، الواقفة وسط الطريق تذهب السيارات وتدور من حولها ويمر بها الناس مدهوشين مما لفت نظرهم من عجز العمال عن الاقتراب من الجدار وتيبس أيديهم في الفضاء بل إن الأول الذي ألم به الصداع جلس القرفصاء مسندا ظهره إلى الجدار وقد احتوى رأسه بين يديه.
كان المتعهد قد أبلغ سايد البلهموتي الذي اشترى الدار على الهاتف الجوال بما حدث. لم يصدق ما سمع، اتهم المتعهد بالغفلة والتساهل والتهاون مع العمال فقد أمضى ربع قرن وهو يشتري البيوت ويهدمها ليرفع مكانها أبنيةأكثرها برجي ..وخلال ذلك طاف في عدد من أحياء المدينة حيث بنى وعمر، وقلما صادف أناسا عنيدين يرفضون التفاهم معه، رغم كل الإغراءات المالية التي قدمها مثل أصحاب هذه الدار، أكثر من هذا فإن رئيس البلدية التي تتبع لها الدار أجاز له أن يصنع ما يشاء مادام قد اشترى الدار من مالكها الأصلي وما هؤلاء الساكنون المقيمون سوى مستأجرين أصدرت المحكمة المختصة حكما قانونيا بإخلائهم..
حينما وصل «سايد البلهموتي» رأي بعض أهل الدار يتفرجون على ما جرى من خلف النوافذ لكنهم إذ أبصروه تراجعوا إلى الوراء وأسدلوا الستائر الداكنة وهدأت الحركة كأن الدار خالية من السكان فما من صوت أو نأمة وضع يده على كتف المتعهد فابتعدا قليلا الأول يلوح بكلتا يديه في غضب ونزق ،الثاني يحدثه بهدوء ولطف وحين عادا أمرالمتعهد العامل الثاني أن يقوم بالمهمة وكان أول المصدوع قد غادر المكان فقد أراد البلهموتي أن يرى بعينيه ماذكر المتعهد أنه يجري. أعاد سيرته الأولى : تفل بين كفيه ورفع المعول عاليا ففوجىء مرة أخرى بأنه عاد لايستطيع الهبوط به كأن القوة المغناطيسية غير المنظورة ذاتها جعلت يده تتيبس فتقف لاترتفع ولا تنخفض وتحتاج إلى قوة حقيقية لإنزالها.
حملق البلهموتي إلى العامل والمتعهد في ذهول واستغراب وتحول وجهه كتلة من التعجب وراح يهز رأسه ويديه في عصبية ويأس وقد اطرد ذلك إذ توالى الأمر مع العمال الآخرين..
سحب المتعهد كرسيا صغيرا فجلس وأسند ظهره إلى الجدار وأشعل لفافة راح يدخنها بنهم فيما أدارالبلهموتي ظهره ومضى. هنا بدا بعض أهل الدار خلف النوافذ المطلة على الزقاق وهم يلوحون بأيديهم للبلهموتي الذي استدار مصادفة فرآهم يضحكون في فرح عبس وتولى.
بعد ثلاثة أيام أو أربعة أتى البلهموتي ومعه آلة حفر كبيرة وكان العمال أنفسهم يهرولون وراءه لاهثين وهم لايدرون ماذا سيفعلون مع الآلة الضخمة التي ما إن اقتربت من الدار حتى سمع ضجيج ودوي غير عاديين.أحكم السائق توجيه ذراع آلته الهائل نحو الجدار العنيد وجعل المحرك يهدر بقوة ثم اندفع باتجاه الحائط القاسي يريد أن يحدث فيه ثغرة واسعة بادىء ذي بدء على أن يتابع الدك حتى يسقطه بكامله.
خفض السائق سرعة آلته إذ اقترب من الجدار ورفع الذراع الجبارة ليهبط بها ففوجىء بها تجمد في الهواء، واكتملت المفاجأة عندما انتبه إلى أن المحرك قد توقف تماما. غادر غرفته الصغيرة ورفع غطاء حجرة المحرك وأخذ يتفحص كل شيء هناك عجبا فما من جزء أو شيء غير طبيعي، لماذا إذا سكت المحرك واختفى صوته وانطفأ ولما كان يجيد شؤون الميكانيك تماما فإن الأمر زاده حيرة قال البلهموتي: أعد المحاولة! قال: كيف والمحرك لايعمل والذراع ترفض الحركة؟!
لم يكن الطقس ذلك النهار حارا كانت تلك الأيام الأخيرة من الربيع مع ذلك فقد تندى جبين البلهموتي عرقا أخرج منديلا من جيبه وراح يمسحه وخلال ذلك حانت منه التفاتة نحو إحدى النوافذ فرأى خلفها أناسا يلوحون بأيديهم وهم يضحكون خيل إليه أن هناك دخانا أشهب أيضا تتراقص من خلفه أشباح مبهمة وتتلامح ألسنة حمراء ربما كانت من لهب .