فنجد أنها وسيلة تعبير تتضمن المثل العليا في نمطيتها وتعدديتها التي تكون أشبه بالوظائف تتخذ وسائل مختلفة في تحقيق مهامها.
والمسرح هو أيضاً وسيلة تعبير إنسانية، جعل من الأسطورة موضوعاً له لتجسيد واقع حدث منذ زمن أو محتمل الحدوث (ضمن مقتضى الرجحان والضرورة كما كان أرسطو يرى ذلك)، لذلك فلا ضير أن نبحث في أصداء الأساطير عن الفعل المسرحي اليومي لتتحول الأسطورة إلى إنتاج ثقافي ومعرفي يرصد مرحلة معينة من الفكر البشري ويسلط الضوء عليها.
هنا لابد أن نطرح سؤالاً، إلى أي حد يمكن اعتبار الأسطورة سجلاً ليس للأحداث التاريخية فحسب بل سجلاً للثقافة والمعرفة الإنسانية في طورها البدائي، أو هي تصوير أعلى لهذه الثقافة والمعرفة في لحظاتها المشرقة، وبالتالي فالأسطورة والملحمة والخرافة والحكاية هي الشكل القصصي النابع عن الشعور الإنساني وإدراكه بأشكال متعددة ومختلفة أحياناً.
من الطبيعي أن المسرح يتطلب درجة معينة من النضج الثقافي والاجتماعي والسياسي والفكري والفني، وهذا يكون من خلال الحديث عن الأنساق الشعرية والشعائرية كالدين والسحر وما يتصل بهما من أساطير وحكايات وملاحم مرتبط بالخيال بهدف إعادة إنتاج هذه المعرفة في سياق تاريخي محدد، وهنا تماماً يزول الفارق بين الحقيقة والخيال، وتبدأ ملامح النشاط المسرحي بالظهور من خلال أجساد تقلد (تحاكي) الحدث البدائي على أنه مجرد ممارسات وطقوس لها طابع فني فضلاً عن الطابع الديني.
فلم يكن المسرح يوماً محصناً ضد الأسطورة أو رافضاً لها، بل كانت الأسطورة مجاله الأوسع لتوظيفها وعصرنتها في نصوص مسرحية وعروض تجسد على الخشبات منذ أول عرض عند اليونان وحتى هذه اللحظة، حتى غدا هذا النمط اتجاهاً يشق طريقه بين الأنواع المسرحية، ونتج عن ذلك وفي أبسط صوره كوسيلة وأداة مواجهة بين الإنسان وقوى الطبيعة الخارقة التي يصعب فهمها وتفسيرها في محاولة للسيطرة عليها والتحكم بها من خلال هذا الشكل الفني المستخدم أو ذاك.
ارتبط المسرح الأغريقي بأساطير ديونيسيوس ذات الطابع الديني، فاستخدم لغة سامية ومكثفة ذات طبيعة دلالية تقترب من لغة الأسطورة والملحمة التي كانت ذات طابع تصويري وتجسيدي، أي بمعنى إظهار الجانب المرئي/ البصري انسجاماً مع المضمون الفكري، وتطورت هذه اللغة واتخذت أشكالاً حياتية أقرب إلى الواقع اليومي للإنسان. وحاول معظم كتاب المسرح الاستفادة من هذه الأساطير في تجسيد رؤيتهم الفنية من خلال الواقع المعاش، بل راح بعضهم إلى أبعد من ذلك، فاستمدوا عناوين مسرحياتهم من الشخصيات الأسطورية مثل «ميديا» و«انتيغون» التي تناولها الكثير من الكتاب بصياغات تناسب مجتمعاتهم، و«أوديب ملكاً» و«هرقل»، والقائمة تطول، لكن الشكل الآخر من استخدام الأسطورة في الكتابة المسرحية كان ضامراً، مخفياً خلف طبيعة الشخصيات بطريقة إيحائية، كما كان تشيخوف يستخدمها في معظم أعماله ليست بمواقف نمطية عليا، بل بمثابة أساليب وخدع مسرحية لإضافة معان عديدة المستويات إلى معانيها القديمة من مفارقة وسخرية وأحاسيس وعواطف..
إن النصوص التي وظفت الأسطورة كمنطلق لها ونفخت فيها الروح لتعيد الإنسان إلى جذوره البدائية هي النصوص التي أغنت خيال المخرجين فيما بعد، فنرى مثلاً صياغات عديدة لملحمة جلجامش في العروض والنصوص كونها متعددة الدلالات، تعيد الإنسان إلى الطبيعة الألوهية والإنسانية والحيوانية، وهذه العناصر متحدة في الطبيعة اتحاداً مطلقاً مع الكائن البشري الأول، فجلجامش هو إله وإنسان وحيوان في الوقت نفسه.
قد نجد تجليات الأسطورة الواحدة لدى معظم الشعوب، لكن كل شعب صاغها وفق خصوصيته المحلية وإن اختلفت هذه الصياغات في التفاصيل إلا أنها تتشابه في أوجه أخرى كالمصدر، لأنها تتناول الإنسان وإن اختلفت بيئته وطبيعته وخصوصيته، لقد مرت جميع الأمم بمرحلة الأساطير وسجلت آلامها وأحلامها ونضالاتها ومقاومتها ضد الطبيعة من أجل البقاء والاستمرار في الحياة، فصورت من خلالها عواطفها وأحاسيسها وقوتها وضعفها وتمردها وخضوعها وحبها وكراهيتها كي يرافع هذا البدائي عن الواقع الطبيعي ويتخلص من علاقته المباشرة معها.
ابتعد الإنسان عن الفكر الأسطوري لأنه استطاع أن يفهم تلك الظواهر التي كانت تحيره، وقد نلمح الأسطورة أو تجلياتها بشكل واضح في نتاجات سارتر في مسرحية «الذباب»، وأسطورة «أورفيوس» في نتاج جان كوكتو وأسطورة «سيزيف» في ألبير كامو و«الأوليسة الجديدة» في كتابات كازانزاكي و«أوديب» لدى أندريه جيد، ولاتقتصر الأسطورة على الشكل الفلسفي أو المسرحي بل تدخل في بناء نظرية فرويد ويونغ النفسية وظهر إثرها النقد الأسطوري في السبعينيات.
إن علاقة الكاتب المسرحي بالأسطورة خارج الرواية التاريخية هي علاقة جدلية تخضع لظروف الزمان والمكان في البيئة التي يعيش فيها، واستقراء الواقع العربي الراهن فنياً وأيديولوجياً واجتماعياً من خلال المعالجة الدرامية لها، وهنا يبرز حق تصرف الكاتب الذي يعالج موضوعاً مستوحى من التراث أو الأسطورة لصالح الواقع وتجاوز المروي والمحفوظ في الذاكرة الجمعية ومنحه الأبعاد والإيحاءات والدلالات وفق رؤيته معبراً عن وجهة نظره الإيديولوجية ورؤيته الجمالية، فانعكس هذا الحق في التوظيف على طرق السرد، وبالتالي على البناء الدرامي للشخصيات، وخاصة الأبطال فمثلاً عند سعد الله ونوس في مسرحية «الفيل يا ملك الزمان»، وعند ألفريد فرج في «الزير سالم» وعند رياض عصمت في «هل كان العشاء دسماً أيتها الأخت العزيزة؟»، واستلهم الكتاب العرب تطويع أسطورة «أوديب ملكاً» لمتطلبات الواقع الاجتماعي والسياسي وفق رؤيا القرن العشرين فكتب توفيق الحكيم مسرحية «أوديب» و«أهل الكهف» وعلي أحمد باكثير «الملك أوديب» وسمير سرحان مسرحية «عودة الغائب» يحاكي فيها أسطورة أوديب أيضاً ووليد إخلاصي مسرحية «أوديب ومأساة العصر»، وربما كانت أسطورة «بيغماليون» التي أوحت توفيق الحكيم بكتابة مسرحيته «بيغماليون» وكذلك قصيدة عمر أبو ريشة «الوجه والمثال» وهكذا اغرت الأسطورة خيال خليل هنداوي في مسرحية «سارق النار»، واستلهم علي عقلة عرسان موضوع مسرحيته «رضا قيصر» من أحداث يوليوس قيصر ليحاكي الأحداث العربية من خلالها، فقد أعاد هؤلاء الكتاب إنتاج الأساطير الحديثة بما يتناسب واقعهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي..
إن الصورة الأسطورية في الأدب والفن هي نتاج الخيال، لكنها ليست مجرد وهم، فلا محال أن الفكر الأسطوري هو فكر خارق وقد نجد أثاره في الواقع، وعندما نستلهمه نستلهم منه الشجاعة والقوة لتجاوز عالم الإحباط الذي نعيشه، لذلك فتوظيف الأسطورة في المسرح العربي كان يرافقها انكسارات واحباطات في بنية المجتمع العربي كونها توظيف نسبي ينبع من منتوج فكري وثقافي وفني.