التصوير المتعدد التقانات اللونيّة والنحت، أي التعبير المسطح والتعبير المجسم، دورهً الهام والمؤثر، في التوثيق والتأريخ للأحداث الهامة في تاريخ الأمم والشعوب، لا سيما تلك المتعلقة بالنضال والثورة والدفاع عن الأوطان والقيم النبيلة والخيّرة ومحاربة أنواع وأجناس وأشكال الاضطهاد كافة، لا سيما العنف الذي يأخذ أكثر من صيغة وشكل، في عصرنا الحالي، بل بات يُشكّل العنف إحدى أهم قرائن وجوده. وفي الوقت الذي يفقد فيه المنجز البصري الضوئي (صورة ثابتة أو فيلم متحرك) وهجه مع تقادم الزمن، يحافظ المنجز البصري التشكيلي على وهجه وحضوره وتأثيره، نتيجة لجملة من المقومات والخصائص التي يتفرد بها العمل الإبداعي التقليدي (التشكيل، الموسيقا، الشعر، الرواية) ومنها: ارتباط هذا العمل باسم مبدعه، وتمثله لأسلوبه وتقاناته، واحتضانه لأفكاره وتوجهاته ومواقفه تجاه قضايا الحياة المعاصرة وتحدياتها، وفي طليعتها العنف الذاتي وعنف الآخر، وخضوعه لعملية الاختزال والتكثيف، واعتماده على الواقع والمخيلة، في آنٍ معاً.
بمعنى أنه لا يقدم الواقع كما هو، وإنما يُعيد صياغة هذا الواقع، وفق رؤية المبدع، وموقفه العميق والحاسم منه، وتالياً قراءته البعيدة لأسبابه والخلفيات المنظورة وغير المنظورة، الكامنة وراءه.
أي أن المبدع يأخذ خلاصة الحدث، بأقل ما يمكن من مفردات وسيلة التعبير التي يشتغل عليها، ويعكسه في منجزه، بأبعاده كافة، وبرؤية ورؤى شخصيّة متفردة، بقدر ما تُركّز على الإسقاطات الإنسانيّة الراهنة والملحة والشموليّة، وتحمل من الاستنارات الفكريّة، والتوجهات الخيّرة الداعمة للحياة ومستقبل الإنسان الآمن والمستقر، وتعتمد على التقانات الفنيّة الحديثة، بقدر ما تتمكن من إيصال خطابها إلى الآخر، وفتح حوار إيجابي معه.
والحقيقة ورغم المأزق الذي وضعته فيه سلطة الصورة الضوئية الثابتة والمتحركة المسيطرة على عالمنا الحالي، لا زال الفن التشكيلي يناضل على جبهات الحياة المختلفة، حمايةً لها، ودفاعاً عن القيم الإنسانيّة الخيرة والعادلة والجميلة، وفي نفس الوقت، دفاعاً عن وجوده الذي اهتز وطاوله الخطر، باختراع أولى وسائل توليد الصورة الضوئيّة، والذي استشعره مبكراً، العاملون في حقول الفنون الإبداعيّة التقليديّة.
موضوع العنف
شكّل موضوع (العنف) بأشكاله كافة، موضوعاً أساساً ورئيساً في مظاهر التعبير الإنساني المختلفة، بدءاً من رسومات إنسان الكهوف التي سجّل فيها أولى ردود فعله تجاه عنف الطبيعة وتحدياتها، المتمثلة بظواهرها (المطر، الرعد، البرق، الرياح الأعاصير، الفيضانات) وبكائناتها التي وجدها حوله (الحيوانات) بلغة فنية بسيطة، تتوافق ومداركه آنذاك. بعدها جاء عنف أخيه الإنسان المتمثل بأولى جرائم التاريخ (هابيل وقابيل). وشيئاً فشيئاً، بدأت أشكال العنف وألوانه وأجناسه، تتلون وتزداد شراسةً وفتكاً بالإنسان ومحيطه، وصولاً إلى عصر الحرب الباردة، وسباق التسلح، وابتكار أسلحة الدمار الشامل والعمل على تطويرها، بشكلٍ دائم.
على الرغم من المعنى السلبي الواضح والبيّن الذي يجابهنا به مصطلح (العنف) إلا أنه، كغيره من المصطلحات والمفاهيم الإشكالية المعاصرة، لاقى هذا التعبير مناقشات متشعبة، طاولت معناه ومبناه وماهيته والأدوار التي يلعبها في حياة الإنسان بشكل عام، والمبدع بشكل خاص.
الحالة نفسها، عاشها الفن التشكيلي ولا زال يعيشها. فمصطلح (فن) لا زال يبحث حتى تاريخه، عن أجوبة دقيقة ومحددة، تذهب بنا مباشرةً، إلى ماهيته ووظيفته وأدواره في الحياة، لا سيما مع الاستخدام الواسع والكثيف والمتشعب، لهذا المصطلح في عصرنا المخترق بكشوفات علميّة وتكنولوجيّة لا تقف عند حد. فكلمة (فن) بتنا نسمعها تتردد على أسماعنا، أكثر من مرة في الساعة الواحدة، بحيث لا يمكن إدراك أو تحديد معناها، دون ربطها بمصطلح آخر كأن نقول: فن تشكيلي،فن تطبيقي، فن مسرحي، فن سينمائي، فن موسيقي، فن مسطح، فن مجسم، فن حدائقي، فن إعلامي، فن غنائي ... الخ. لقد خلق الاستعمال الواسع لكلمة (فن) إشكالات كثيرة، طاولته وطاولت مزاوليه، حيث اختلط معناه بمعانٍ عديدة، وتداخل مفهومه بمفاهيم كثيرة، القسم الأكبر منها لا يمت إليه بصلة!!.
قد لا تكون إشكاليّة تحديد ماهيّة (العنف) بهذا الاتساع والتشعب، لكنها لا زالت تخضع لعدة تأويلات، وتأخذ أكثر من صيغة وشكل ومعنى ودلالة. فالعنف مباشر وغير مباشر، سافر ومُقنّع، مادي ومعنوي، إقصائي سلبي، وإقصائي إيجابي، تدميري وإعطابي، شامل ومحدود، ذاتي يمارسه الإنسان على نفسه لأكثر من سبب، وموضوعي يأتيه من الخارج، لأسباب مختلفة أيضاً، وعند هذين النوعين من العنف، ستكون وقفتنا، وبالتحديد كما تبديا في الفن التشكيلي المرتبط إلى حد بعيد، بتحولات الحياة التي لا تقف عند حد، ولا يبدو أنها فاعلة ذلك في المستقبل.
(عنف الذات) نعني به هنا: العنف الذي تُمارسه جوانيّة الفنان التشكيلي عليه، ويأخذ طريقه إلى منجزه البصري بهذا الشكل أو ذاك، وبهذه الصيغة الفنيّة والأسلوبيّة أو تلك. أي العنف الذي يأخذ شكل الإرهاصات، أو المواقف المأزومة، أو التصورات الكابوسيّة، أو الرؤى السوداويّة، أو الأمراض الجسديّة والنفسيّة التي تؤدي إلى خلق نوع من الارتدادات المدمرة لروح الفنان المفعمة بحساسيّة عالية تصل به إلى حد التطيّر، بعضها يبقى حبيساً في داخله، ناشراً الخراب الروحي فيها، وبعضها الآخر، يفرغه في الخطوط والألوان والحجوم، عبر جملة من الرموز والإشارات والاصطلاحات البصريّة الاتفاقيّة المعروفة، أو المتخيّلة والمبتكرة، ومن ثم تنظيم وترتيب ذلك، في معمار عمله الفني، وفق الصيغة التي يراها مناسبة، وتخدم عمله شكلاً ومضموناً.
عنف الآخر
أما (عنف الخارج) الموضوعي، فنعني به العنف الذي يمارسه الآخر على الفنان التشكيلي مباشرةً، أو على قيمه ورموزه التي يحترمها ويجلها ويعتز بها، وتُشكّل رافعة الاستقرار المادي والمعنوي لكيانه وحياته، وترسم العنوان العريض لأمنه وطمأنينته، ممثلة بأسرته، أو أرضه، أو وطنه، أو أمته، أو عقيدته، أو فكره، أو بشريحة إنسانيّة يشعر بالانتماء إليها، أينما كانت متواجدة فوق هذا الكوكب، كونها تشاركه إيمانه ببعض هذه القيم والمبادئ.
ولأن الفن كينونة إبداعيّة تعبيريّة شفيفة وراقيّة، ويقف دوماً، في الجانب الخيّر والجميل والعادل من الحياة، ويعمل جاهداً للكشف عنها، مقدماً للناس (من خلال عمليّة الكشف هذه) وبشكل دائم ومتواتر، أسباباً دائمة للحياة وحب الحياة، كلما أعطبتها سلطة غاشمة، أو صادرتها شهوة الاغتصاب لدى أعداء الإنسان والحياة، أو غيبتها رعونة الغزاة ووحشيتهم وحقدهم وطمعهم في السيطرة على الآخر.
لقد كان الفن التشكيلي ولا زال، إحدى وسائل الحوار الهامة والمؤثرة والفعّالة بين البشر، ما يتوجب الاشتغال عليها وتنميتها وتطويرها وتعميقها وتعميمها، بهدف تكريس ونشر الخطاب الذي يفتح نوافذ الحوار الإيجابي مع الآخر، مشفوعاً بفكر مستنير، ونية سليمة، وهدف خيّر، وقلب مفتوح ممتلئ بحب الإنسان والحياة، ولغة إنسانيّة شفيفة قادرة على مقاومة لغة العنف الفاسدة والمفسدة والناتجة عن كائناتٍ بشريّة مريضة العقل، عفنة الروح، معطوبة الأحاسيس نرجسيّة النزوعات، حاقدة التطلعات، تكره الإنسان، وتمقت الحياة وتعادي قيمها النبيلة.
ولأن العنف في شكله السلبي المقيت المعادي لحياة الفنان التشكيلي، والمهدد الأول لاستقراره المادي والمعنوي، وتالياً لأهم العوامل والمقومات التي يجب توفرها، لولادة إبداعاته بشكلٍ صحيح وسليم ونموها وانتشارها، فقد استشعره مبكراً، وبالتحديد قبل أن يُصنف في خانة الفنانين. أي في المراحل الأولى لصيرورة الإنسان، حيث استخدم الإنسان البدائي الذي سكن الكهوف أكثر من وسيلة لمجابهة عنف الطبيعة، والتغلب على شعوره بالخطر الذي يهدد حياته، من بينها (الرسم) الذي أسقط فيه ومن خلاله جملة من مخاوفه وهواجسه، مستخدماً جدران سكنه الأول حاضناً لهذه الرسوم. فما كان غير قادر عليه في أرض الواقع، كمجابهة خصومه الأقوياء والخطرين خارج كهفه، قام بمجابهته فوق جدران كهفه، عبر لغة الرسم التي رغم بساطتها وبدائيتها، حملت مداليل إنسانيّة عميقة، جلها خلقه عنف الطبيعة، ومخاوف الإنسان الأول على حياته.
بعد ذلك، جاءت أولى الجرائم الإنسانيّة في التاريخ (قابيل وهابيل) ثم تدرجت صيغ وأشكال العنف الإنساني. أي العنف الموجه من الإنسان ضد أخيه الإنسان، بأكثر من أسلوب، ولأكثر من هدف. ولأن الفن التشكيلي بضروبه وأجناسه المختلفة (الرسم، التصوير المتعدد التقانات، النحت، الخزف، الحفر المطبوع) لعب دوراً تأريخياً وتوثيقياً، خلال أحقاب تاريخيّة مختلفة. وبالتحديد قبل أن تزاحمه وسائل أخرى جديدة، جاءت مع اختراع (الكاميرا) فقد كان في طليعة وسائل التعبير الإنسانيّة التي استقبلت ردود فعل الفنان تجاه ظاهرة العنف المتعددة الأسباب والأشكال، من ذلك ما حملته الجداريات والمجسمات والمدونات البصريّة المختلفة، خلال الحقبة المصريّة القديمة، والبابلية الآشوريّة واليونانيّة والرومانيّة ... مروراً بعصر النهضة وما بعدها، وصولاً إلى يومنا هذا. فقد أرّخ ووثق الفن التشكيلي، للحروب، وأبرز مظاهر العنف المختلفة التي مارسها القوي على الضعيف، والمنتصر على المغلوب، والمعتدي على المعتدى عليه. كما التقط الفنان التشكيلي، أساليب الاضطهاد الصريح والمقنع، التي مارسها رجال الدين (باسم الدين) تجاه الناس عموماً، وتجاه الفنانين التشكيليين خصوصاً، لا سيما أثناء سيطرة الكنيسة على غالبية أنظمة الحكم في أوروبا قبل عصر النهضة وخلاله وما بعده. ثم جاءت الحروب الحديثة بين أفراد الشعب الواحد (الحروب الأهليّة)، أو بين شعبٍ وآخر، لتؤكد وتبرز وتجسد، ظاهرة العنف، بأشكال وصيغ تدميريّة جديدة ومذهلة، تبدو أشد فتكاً وتدميراً، ليس في الناس فقط، وإنما في البيئة الحاضنة للحياة ورموزها.
فمع انطلاق الإنسان في مدارج الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي المستمر حتى يومنا هذا، أفرز الجانب العاطل والشرير، من التقدم العلمي، وسائل فتك وتدمير هائلة، لعل أهمها وأبرزها، القنابل الذرية والنيترونيّة التي جسدت العنف بأشد صوره خطورةً، وصعّدت من مخاوف الإنسان على حياته وحياة بيئته .. بل وكوكبه الذي يحتضن حياته ومستقبل أولاده وأحفاده، الأمر الذي دفع المبدعين للدفاع عن الإنسان والحياة والمستقبل، وفي طليعتهم الفنانون التشكيليون الذين يتفردون عن غيرهم من المبدعين، بكون إبداعاتهم لا تحتاج إلى ترجمة أو وسيط لفهمها، فهي واضحة ومقروءة وحاضنة لأشكال ورموز ومداليل وإشارات اصطلاحيّة متفق عليها عالمياً، بإمكانها السفر إلى أصقاع الدنيا كافة، ومصافحة عقول وقلوب وأحاسيس الناس والتأثير فيها بقوة ... دفعهم لتشكيل جبهة معاديّة لمظاهر العنف الجديدة، متسلحين بشعار نبيل هو: النضال ضد الأخطار المحيقة بالحياة والحرية والمستقبل الآمن المستقر. وهكذا بدأت تظهر شعارات جديدة، تؤكد أن (الوقت ضيق، فلنعمل باسم الحياة والحريّة) و(لا تفوتوا أية فرصة في سبيل الانفراج ونزع السلاح) و(إننا قلقون ولكننا مفعمون بالثقة) و(يجب أن تسقط قرارات الصواريخ وقنابل التدمير الشامل ليحيا الجميع).
يقول أحد علماء الخصائص الوراثية الألمان، بأنه مما يستهزئ بكل عقل، أن العالم به حوالي نصف مليون عالم (ثمانينات القرن الماضي) يعملون في تطوير الأسلحة. هذا العالم الذي يواجه مشاكل الجوع والفاقة في البلدان النامية، وصيانة البيئة، وتأمين المواد الخام الضروريّة للحياة التي لا تنمو في تربة ملوثة بالإشعاع الذري. لأن الفلاحين مختصون بالخبز والحليب والنمو الجيد للغلال، فهم يحتاجون إلى السلم والاستقرار والحوار مع الآخر. وكذلك الأمر بالنسبة للأطباء المختصين بالمحافظة على الحياة ورعايتها، ومع ذلك نجد أن النفقات التي تُصرف على تصعيد التسلح، هي أكثر بعشرات المرات، مما يُصرف على القطاع الصحي في العالم.
مثال ذلك أن نفقات عشر سنوات متصلة على مكافحة مرض الجدري في العالم بلغت في ثمانينات القرن الماضي 83 مليون دولار، وهذا المبلغ أقل بكثير مما يستلزمه صنع قاذفة قنابل حديثة. من جانب آخر، يكفي ثلث تكاليف صنع غواصة حديثة للقضاء على وباء الملاريا في العالم أجمع!!.
هذه الحقائق المرعبة عن سباق التسلح، والإمكانات الخياليّة التي تُصرف عليه، وبالمقابل، إصرار أصدقاء الحياة من مبدعين وفلاحين وعمال وأطباء وغيرهم، وبكثير من النبل، على الوقوف إلى جانب الصحة والخبز والحليب والنمو الجيد للغلال وصون البيئة: طرفا معادلة صعبة غير متكافئة لا تزال تفرز العنف والقلق والخطر والخوف على الأرض ومستقبلها. الطرف الأول يُصر على تحديث وتطوير وسائل الفتك بالإنسان والحياة. والطرف الثاني يُصر على صون الإنسان والحياة.
وككل الذين يقفون إلى جانب استمرار الحياة دون خوف أو قلق أو عنف، يأتي الفنانون التشكيليون ليساهموا بدورهم، في مجابهة عنف الآخر، والمحافظة على الحياة، عن طريق رفعهم لأكثر من (لا) في وجه تجار الأسلحة وناهبي أمن وخبز الشعوب، وذلك عبر خطاباتهم البصريّة المختلفة والكثيرة، نحتاً كانت أم رسماً أم تصويراً أم حفراً مطبوعاً أم إعلاناً.
فقد أفرز الفن التشكيلي العالمي المعاصر، أعمالاً فنية هامة، جابهت العنف الأرعن، وطالبت بإزالته.
وهكذا، يرتفع (صوت الفن) ضد (صوت العنف) على امتداد ساحة العالم. تارة يأخذ صوت الفن رد الفعل المباشر والسريع، فيتجسد في ملصق، أو في رسمة كاريكاتيريّة، أو في رسم توضيحي (موتيف) .. وتارة أخرى، يأوي إلى نص بصري راسخ ومؤثر وفاعل وعميق، له سمة الديمومة والخلود.