في الاجتماع الخاص للجمعية العامة للأمم المتحدة حول الأطفال، الذي عقد في 9/ 5/ 2006، وبحضور الأمين العام للأمم المتحدة (كوفي عنان) ورعايته.
ولا تقل كثيراً أهمية الحاجات الروحية والثقافية لهم، عن تلك المتعلقة بالقضايا المادية. خاصة وأن أطفال بعض المجتمعات، التي لا يتعرضون فيها للحرمان المادي الشديد، يمكن أن يكون إهمال حاجاتهم الثقافية والروحية مصدراً لاختلال واضطراب إنساني، يشوه نموهم و يؤثر سلبياً على مستقبلهم. ولا ننسى الضرر الذي يجلبه تلقي الأطفال العشوائي لمنتجات وسائل الدعاية والإعلام والإعلان، المطبوعة والمسموعة والمرئية.
كثيرة هي الأسئلة التي يثيرها موضوع أدب وثقافة الطفل، والإجابة عليها هي مهمة المؤسسات التربوية والثقافية والعلمية والفنية. وكل من يعنيه المستقبل يقع عليه واجب الاهتمام بإنسان المستقبل، الذي هو طفل اليوم، القادم إلى مواقع الحياة الفاعلة والمؤثرة.
في المثل العربي» العلم في الصغر كالنقش على الحجر».
وحسب علماء التربية والاجتماع، والخبراء النفسيين، يبدأ الطفل اكتساب خبراته في الوجود من المهد. حيث يستمع إلى الترنيمات التي ترددها الأم على مسامعه، فيطرب لها حينا، معبرا عن ذلك بحركات جسدية تستجيب للنغم، أو أنه يستسلم لها فيغفو على أنغامها في نوم سعيد. وما يلبث أن يبدأ في إدراك المعاني التي تحملها الألفاظ والكلمات المنطوقة، فتكون علاقته بما يدعى الأدب قد بدأت.
تواجه مسألة أدب الأطفال تحديات مباشرة ومنظورة، وأخرى، وهي الأشد أثراً، حيث منهج التفكير الذي يعتمده الكاتب المهتم بإنتاج الأعمال الأدبية المخصصة للطفل، يعكس نفسه بشكل غير مباشر على القيم والأخلاق والسلوك والمعارف، وبالتالي على الشخصية الإنسانية للفرد وهو يدخل مرحلة النضج، ويبدأ الانخراط الفعال في ميادين الحياة.
ولأسباب كثيرة، ليس أهمها حداثة الاهتمام بأدب الأطفال، هناك العديد من المسائل الجوهرية، التي تربك وتشوش وعي الأطفال في مجتمعاتنا، وهم يتلقون ما يصل إليهم، أو ما يقدمه لهم الكتاب الأدبي (قصة، أو مسرحية، أو رواية).
المسألة الأولى التي يلاحظها المهتمون، هي الهدف المتوخى من الأعمال الأدبية المعدة ليتناولها الطفل. فالاتجاه الغالب على امتداد العقود الماضية، هو غرس الوعي والثقافة القومية والوطنية، ورغم النوايا الخيرة والطيبة لهذا الهدف، لكنه يبدو متسرعاً، لا يراعي حقيقة أن الطفل هو كائن إنساني أولا وقبل أي شيئ آخر، وتنمية وعيه لذاته ولسواه، بدءاً من أول الهويات وأهمها، هويته كإنسان، هو المرتكز الموضوعي الذي تنطلق منه مجمل الأهداف المنشودة من الأدب، ومنها الهدف الوطني أو القومي.
تلك المسألة تتجلى غالباً في الانحياز إلى التراث المحلي، واستلهام النصوص الأدبية من قصص وحكايات وروايات وأشعار، على اعتبار أن الهدف الوطني والقومي من الأدب الموجه للطفل، حسب أصحاب هذا المنهج، يتحقق بتعزيز الصلة مع التراث، وترسيخه في وعي أجيال المستقبل، وعلى الغالب، دون تدقيق بصلاحية ما جاء في موروثنا الثقافي والأدبي لروح العصر وتطوراته الفكرية والفنية والأخلاقية والحقوقية.
ينشد الداعون إلى توظيف التراث في أدب الأطفال، حسب أحدهم إلى «تعريف الأطفال بتراثهم، وبعض جوانب تاريخهم خصوصاً في عهد الازدهار» فلنلاحظ عبارتي جوانب تاريخهم – عصور الازدهار. هناك مشكلة الخوف من التعريف الكامل وفي العصور كافة، بما فيها عصور الانحطاط. لكن طالما الهدف» تعميق الانتماء العربي، وتقديم البطولات العربية من أجل غرس قيم الشجاعة في نفوس الأطفال»، يصبح القفز عن كل ما هو سلبي في تاريخنا ضرورة لدى دعاة توظيف التراث في أدب الأطفال، ومنه ينشأ تشويه للمعرفة وتلاعب بوعي الجيل الجديد. لماذا لا نترك شأن التراث متعدد الجوانب لمراحل عمرية متقدمة؟ ليكون بمقدور الفرد الناضج استيعاب فكرة: أن ميراث أي شعب فيه المعاني والعبر المختلفة، السلبي منها والإيجابي، وهو أمر لا يهدد الانتماء القومي، إنما يمده بقوة التعبير عن الذات بجرأة، ويعطيه مفاعيل التحول والتجدد، وفق مقتضيات التطور في الحياة الإنسانية المعاصرة.
لكن النقاد والمهتمين بالتراث يختلفون حول منطق الأصالة والمعاصرة التي استلهم بها التراث الشعبي، ما بين تأكيد البعض من الملتزمين بضرورة أخذ مادة التراث بكل معطياتها دون تحريف، من منطلق عدم حقنا في التلاعب بسماتها، أو تفريغها من روحها ، وحق المتلقي في التعرف عليها بماهيتها الأصلية، أو من نظرة أخرى ترى أن الأصل لا يمكنه إلا أن يكون معاصراً، ولا يمكننا أن نتصوره منفصلاً عن الواقع، ولذا فإنه من حق الجميع أن يخرجوا هذا التراث من حالة سكونه بقالبه الثابت إلى آخر متحرك بأطر متغيرة بتغير العصر.
يتفق الدارسون لأدب الأطفال في البلدان العربية على أن أهم مصدرين من كتب التراث، المستخدمين في تأليف القصص وكتابة المسرحيات الموجهة إلى الطفل، هما (ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة).
لنأخذ الكتاب الأول حتى نقف على سر اعتماد الكتاب عليه في تأليف القصص والمسرحيات المستمدة منه. فهو يضم حكايات أسطورية عجيبة، تمتع الأطفال وتنشط مخيلتهم، مثل قصص (علاء الدين والمصباح السحري، ورحلات السندباد، وعلي بابا والأربعين لصاً، وقصص أخرى). ولكن من وجه آخر هناك آثار سلبية لمثل تلك القصص، إذا لم يكن الكاتب يقظاً وحريصاً على حماية عقول الأطفال من تسلل المفاهيم والأفكار الخاطئة، مثل السحر والأعمال الخارقة، غير المعقولة، وبعض الحكايات التي تميل إلى الخلاعة والمسلكيات المنحدرة، لأن ما يترتب عليها من زرع للوهم، واندفاع إلى المغامرات غير المحسوبة، واعتبار السلوك الخلاعي أمراً مشروعاً ومقبولاً، يودي إلى نتائج مغايرة للأهداف المعرفية والتربوية المنشودة من الأدب.
لقد أشار أحد النقاد المتخصصين في أدب الطفل مثلاً، إلى ألف ليلة وليلة (شهرزاد وشهريار)، وتوقف عند العنصرين الأساسين في القصة، وهما الخيانة الزوجية والقتل اليومي، وتساءل ونحن نشاركه ذلك: هل تناسب هذه الحكاية وعي الطفل؟ وهل تخدم التربية العلمية والأخلاقية المطلوبة؟
أما في قصة علي بابا والأربعين لصاً، فالسرقة هي مضمون الأحداث الأساسي، حتى ولو كانت السرقة من الأثرياء تارة، أو من اللصوص أنفسهم. زد على ذلك خيانة الأخ لأخيه. فالمغامرة والتشويق هنا لا يغفران لسلبية الفكرة التي تقوم عليها القصة.
في علاء الدين والمصباح السحري، نجد الشر والاستغلال، بين العم وابن الأخ، والأكثر سوءاً هو طرح حلول سحرية لحل جميع المشاكل، وتحقيق الثراء المادي والفوز بالحبيبة. ولا يوافق أحد على توجيه الأطفال بهذا الاتجاه.
المصدر التراثي الآخر الذي استمد منه أدب الأطفال حكايات وقصص ومسرحيات، نجده في كتاب ( كليلة ودمنة). وهو كتاب اختلف الدارسون عليه، بين أن يكون ابن المقفع هو من ألفه، وادعى أنه ترجمه ليبعد عن نفسه شرور الحكام، أو أنه بالفعل كتاب هندي ترجم إلى الفارسية، وقام ابن المقفع بترجمته إلى العربية. وهو يستمد أهميته في عالم الطفولة لأن قصصه وضعت على ألسنة الطيور والحيوانات، الأمر المشوق للطفل، وفيه من الجمال والبراءة ما يزرع لدى الطفل الحكمة والقيم، ويزوده بالحنكة وحسن التصرف أمام المشكلات. لكن بعض الباحثين رأى في دروس كتاب (كليلة ودمنة) أموراً أعمق، حيث اعتبروه كتاباً سياسياً ذكياً، وتم تقديمه بشكله المعروف تحايلاً على «الأمير» ، ليأتي ميكيافيلي و «أميره» بعد قرون، بتعليمات سياسية واضحة وصريحة، للدول والسلطات، وردت على ألسن الحيوانات في «كليلة ودمنة».
مصدر ثالث اعتمد عليه كتاب أدب الأطفال العرب، هو نوادر جحا. تلك الشخصية الحاضرة جداً في الكتب الفكاهية المقدمة للأطفال. ويذكر أن «جحا» بنوادره شكل مصدراً للسخرية والضحك، اللذين يمتعان الأطفال، إلا أن عدداً من الأخصائيين في علمي النفس والتربية، يذهب إلى تأكيد حاجة الأطفال إلى القصص والمسرحيات الجادة، التي يتخللها الضحلك والسخرية بين حين وآخر داخل العمل الفني والأدبي. ومعلوم تماماً أن شخصية جحا في»الحكايات والقصص» كما في المسرحيات المقدمة للأطفال، هي هزلية وساخرة من ألفها إلى يائها، يظهر فيها جحا غبياً إلى النهاية. والغباء المتأصل لا يصلح نموذجاً إيجابياً أو ملهماً لارتقاء وعي الطفل وشخصيته.
فلماذا يبقى أدب الطفل العربي منغلقاً حول المصادر التراثية فقط؟ نعم يمكن لأدب الطفولة أن يكون عالمياً، في أدواته وأشكاله وقيمه وأهدافه، دون أن تتبدد الهوية، فاللغة والأسماء والأمكنة وغيرهم كثير، هم العناصر الأولى لهوية الأدب. ولا يعني ذلك إدارة الظهر كلياً لاستلهام الكتاب تراث بلادهم ولغتهم، وهم يعملون على إنتاج أعمالهم الأدبية المقدمة للأطفال.
كورنيليا فونكة، الموصوفة «أيقونة أدب الأطفال في ألمانيا» نجحت في الخروج بأدب الأطفال الألماني من المحلية إلى العالمية، وتمكنت من تجاوز حاجز اللغة والأفكار النمطية المنتشرة عن هذا الأدب، فأصبحت دور النشر العالمية تتسابق على شراء حقوقها للترجمة. وكانت من نتائج إبداعها أن قدمت لبلادها مكانة عالمية عبر التواصل الذي يتولد عن الترجمة إلى عشرات اللغات. ولقد شهدت ألمانيا، سنة 2005 بيع حقوق ترجمات 1800 كتاب طفل، مقابل 569 رواية أدبية. ويعود الفضل في ذلك إلى النجاح الذي حققته الكاتبة (كورنيليا فونكة) لأدب الأطفال الألماني، التي استطاعت الخروج بأدب الأطفال من المحلية إلى العالمية، بعد أن تمكنت من اجتياز حاجز اللغة.