هذا ما قاله الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد في إحدى محاضراته.
لكلّ بيئة و مجتمع و فرد جماله الخاص و قيمته الفريدة, فلا يجب لفنان يعيش في مكان و زمان معين, يقاسي آلامه و يستمتع في جماله, أن يقلّد مواضيع أعمال الفنانين العالميين. و انطلاقاً من كون الفن وسيلة للتأثير على الجمهور, نجد أنه كلما كان العمل الفني أكثر قرباً إلى البيئة أو المجتمع الذي وُجد فيه و كلما صوّر سماته الخاصة لقيَ اهتماماً و قناعة أكبر من قِبَل أفراد ذلك المجتمع, في محاكاته لتفاصيل حياتهم و نفوسهم و في جذب انتباههم لما لم يروه من أنفسهم, و قد يكون دوره أكبر عند نقله لواقع حياتهم من زاوية غير مألوفة بالنسبة إليهم, مما يوصلهم إلى درجة أسمى من الفهم و الحكمة.
يقول أوسكار وايلد: ’قد تقولون إن الجمال الخارجي للعالم قد اختفى بالكامل, و أن الفنان لم يعد يعيش وسط محيط جميل, و أن الفن صعب جداً في مدينتنا البغيضة هذه حيث تذهب إلى عملك في الصباح عابراً شوارعاً ذات عمرانٍ هو الأكثر تفاهة و سذاجة مما شهده العالم... و قد تقولون لي: أوليس الفن صعباً في محيط كهذا؟ بالطبع إنه صعب لكن لم يكن الفن سهلاً قط, أنتم لا ترغبون في أن يكون سهلاً. ما من أمرٍ يستحقّ العناء إلا ما يعدّه العالم مستحيلاً... لا أعتقد أن البيئة الجميلة هامّة للفنان, و لا أرى أن أكثر الظواهر بُعداً عن الفن هو تجاهل العامة للأشياء الجميلة, لكنه تجاهل الفنان لما يُدعى بالأشياء «البشعة».‘ مما ذكره وايلد يمكننا أن نفهم أن اتخاذ مقاييس مسبقة لما يستحق أن يكون موضوعاً فنياً و عدم التفكّر في جمالية و خصوصية المكان و اللحظة هو محاولة فاشلة أو هي كما وصفها وايلد بالـ ’سهلة‘, و أما الفن الصعب يتطلب رؤية وحساسية متفرّدة تجاه البيئة المحيطة. و يؤكد وايلد على هذه الفكرة أيضاً بقوله: ’إن قاعدة أن ترسم ما تراه هي قاعدة حسنةٌ في الفن, لكن الأفضل أن ترى ما يستحق الرسم.‘ و لعل ذلك ما قصده الفنان الإيطالي مايكل أنجلو أيضاً في قوله: (يجب أن يحمل الفنان أدوات قياسه لا في يده, بل في رؤيته).
تكتمل الرؤيا الحقيقية اللازمة لكل إنسان يسعى إلى ترقية فكره عندما يدرك أهمية دقائق الأمور, فلا يترك أمراً يمرّ به دون أن يترك أثراً في نفسه و يستخلص المعنى منه. قال الأديب الأرجنتيني بورخيس: ’على الكاتب—كما على كل الأشخاص في اعتقادي—أن يعدَّ كل الأحداث التي يمر بها مورداً. فلكلِّ ما قُدّم لنا هدف, و على الفنان أن يعي ذلك إلى درجة أكبر. كل ما يحدث لنا بما في ذلك ذلّنا و محناتنا و لحظات ضعفنا, كل ذلك يقدَّم لنا بصفته مادة خام, كالصلصال الذي منه نشكّل الفن.‘
إذا نظرنا إلى أعمال فناني الحاضر في سورية من رسامين ومؤلفين موسيقيين و كتّاب قصة و سيناريو إلى آخره, فإنَّنا سنرى أنَّ جُلَّهم لم ينجح في جعل واقعنا و حقائق حياتنا وحياً يغذي أعمالهم بالصدق و الاحتراف المطلوب. و إن السبب في ذلك هو انجرار الأغلبية وراء عناصر الجمال الزائف الذي يملأ عقول الجمهور صوراً غير صادقة عن السعادة و ما يجب أن تكون عليه الأمور, كالعلاقات الاجتماعية, و شكل المنزل و شكل المرأة و شكل الرجل... و حتى المعاناة و التعاسة.
الجمهور هو راعي الفن, فهو يقرر نجاح عمل أو إخفاقه. فإذا لم يعد يعنيه و يجذب اهتمامه تجلّي قضايا و تفاصيل حياته في إبداعات الفن فذلك لأنه عُمي عنها و انشغل, و أصبح اهتمامه منصبّاً على الأعمال التي تحرّك المشاعر البدائية السطحية و التي لا تقارب خصائصه الفريدة أبداً بل تعتمد على مقاييس جمال و قيمة زائفة. وهنا نجد فكرتين:
-على الجمهور أن يستعيد تفرده في التفكير و مقاييسه الخاصة, إذ إن ثقة الفرد برؤيته و قيمة أفكاره تضمر في ذلك الكمّ من المقاييس و المفاهيم الزائفة. و إن اختياري لفعل الاستعادة في الجملة السابقة يأتي من حقيقة أن كل إنسانٍ يمتلك أصلاً القدرة على التفكير و التقييم الفرديّ بعيداً عن المؤثرات الخارجية التي تغيّر أساليب تفكيره. قال الفنان الإسباني بابلو بيكاسو: ’كل طفلٍ وُلِدَ فناناً و المشكلة تكمن في بقائه فناناً عندما يكبر.‘ و إن السمة المشار إليها ضمنياً في الطفل—و التي يجب أن يحافظ عليها المرء عندما يترك طفولته—هي التفكير الفردي الحرّ.
-على الفنانين أن يشاركوا في عملية الإبداع الهادف إلى إيقاظ الحس السليم و التفكير الفردي لدى أبناء مجتمعهم, فذلك لا يؤثّر على الذوق الفني للعامّة و حسب, و إنما على نظرتهم و تقييمهم لحياتهم في كل تفاصيل جمالها و مصاعبها و عقباتها. و النتيجة الطبيعية بعد يقظة التفكير الفردي هو نهوض و رقي يطول كل نواحي المجتمع. فلا يجب أن يخاف الفنان من أن تفشل أعماله الفنية الواقعية في كسب اهتمام الجمهور وفق المقاييس الزائفة التي اعتادوها. يقول أوسكار وايلد: «لا يجب أن يسعى الفنان إلى أن يكون شعبياً أبداً, بل على الشعب أن يكون أكثر فنيّة.» ووفق ما ذكرنا يمكننا التفكر فيما قاله بابلو بيكاسو: «كما تعلمون إنني اليوم مشهور و غني جداً. لكنني عندما أكون وحدي لا أملك الشجاعة لأعدّ نفسي فناناً بالمعنى القديم العظيم للكلمة... إنني مجرّد مسلّ للعامة يفهم مقتضيات عصره.» فهل كان بيكاسو من النوع الذي يتبع رغبات الجمهور أم إن الجمهور لمس في أعماله شيئاً من جمال الفن الحقيقيّ؟
ما من جوابٍ في هذه البساطة, و إنَّ اتّباع رأيٍ أو جوابٍ معين هو تقييدٌ للفكر الفردي, فما على الإنسان إلا أن ينظر إلى لوحةٍ دون أن يعرف اسم رسّامها, أو أن يقرأ قصة دون أن يعرف اسم كاتبها فيجد فيها مدى أهمّيّتها و قيمتها بغضّ النظر عن الرأي العام و الفكر السائد, و لكن الفكر الفردي لا يُفَعَّلُ في ليلة و ضحاها و إنما هو عملية طويلة من التربية و إنشاء وسائل الإعلام و أنواع الفنون و الهوايات الصادقة تجاه الفرد أي التي ترتكز على قدراته و رؤيته هو دون غيره.