تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الخلاف بين أقطاب المؤامرة أمام بوادر الهزيمة

شؤون سياسية
الأحد 7-10-2012
عبد الرحمن غنيم

إذا كانت تركيا قد اضطرت إلى نفي الأخبار الملفقة التي فبركتها قناة العربية , وهي القناة الصهيونية المموّلة سعودياً والملتفة بعباءة سعودية ,

عن اشتراك الروس في إسقاط الطائرة التركية التي اخترقت الأجواء السورية , وكأنّ تشغيل مدفع رشاش مضاد للطائرات يحتاج في العقل السعودي إلى استيراد خبراء , وهو تفكير يعكس اعتماد آل سعود على الأمريكيين في كل شيء , حتى أن طائرات الأواكس الرابضة في مطار وسط الرياض لا تزال تحت إدارة الأمريكيين رغم مرور عشرات السنين على شرائها . فكل يفهم الأمور « على قدّ عقله» . و «على قدر أهل العزم تأتي العزائم » . إذا كانت تركيا قد فعلت ذلك , فليس بالتأكيد لأنّ ما قالته قناة العربية كان تلفيقاً وتزويراً مفضوحاً . فتركيا تعرف بأن كل ما تبثه هذه القناة هو تلفيق وتزوير , وأن هذا التلفيق والتزوير هو جزء من المؤامرة التي تنخرط فيها تركيا مع آخرين ضدّ سورية . وعليه , فما الذي عدا لما بدا وجعل تركيا تسارع إلى نفي الخبر المزوّر ؟ .‏

لا شك أن الأتراك شعروا بأنّ هذا الخبر المزوّر ليس بريء النيّة بالنسبة لهم بالذات , أي أنّ وجه التزوير فيه ليس استهداف سورية كما هو معتاد , وإنما استهداف تركيا . فما هي أوجه الاستهداف المحتملة لتركيا من وراء اختراع خبر من هذا النوع ؟ .‏

أول ما يخطر بالبال أن الخبر يرمي إلى الوقيعة بين تركيا وروسيا , بما يتضمنه من تحريض لتركيا على روسيا . وهذا يعني منطقياً محاولة توريط تركيا في أزمة مع روسيا .‏

أما البعد الثاني , فهو محاولة تحريض تركيا لتصعيد سياستها العدوانية ضدّ سورية , خاصة وأن هذا الخبر جاء بعد خبر مدسوس كاذب آخر يتهم السوريين بقتل الطيارين بعد القبض عليهم أحياءً . وهنا سيقال : وهل تحتاج تركيا إلى من يحرّضها في هذا الاتجاه ؟.‏

هذا السؤال الأخير يقودنا إلى الظرف الذي فبركَ فيه الخبر . فقد جاء هذا الخبر تالياً لثلاثة أنباء كل منها له دلالته :‏

الأول : أن تركيا طلبت من المسلحين السوريين وقياداتهم الانتقال إلى داخل الأراضي السورية , وإخلاء الأراضي التركية.‏

والثاني : أن تركيا – وقطر – أوقفتا توزيع الأسلحة على العصابات المسلحة في سورية بسبب الفرقة والخلافات بين هذه العصابات .‏

والثالث : أن قادة المسلحين أعلنوا قرارهم بالهجوم الشامل على حلب , فإما نصر أو هزيمة .‏

قد يأخذ البعض هذه الأخبار على علاتها , ولا يشغلون أنفسهم بالتفكير فيما يمكن أن يكون وراءها . ولكي نفهم ما وراءها لا بدّ وأن ننتبه إلى الأمور التالية‏

أولاً : تزايد أعداد الأتراك المنخرطين في الجماعات الإرهابية المسلحة , وهو ما يتضح من الأنباء المتعاقبة حول أعداد القتلى منهم . وحيث أن هؤلاء يقاتلون مع القاعدة , فهذا يعني أنه مع انتهاء الأزمة في سورية وعودة من يبقى حياً منهم إلى تركيا , فإنهم سيشكلون مشكلة لتركيا .‏

ثانياً : لقد قيل إن الدافع الحقيقي وراء وقف تسليم الأسلحة – مؤقتاً – للمسلحين هو الخلاف بين تركيا وكل من قطر والسعودية , لأن قطر والسعودية تفضلان تسليم الأسلحة للجماعات السلفية التكفيرية أكثر من تسليمها إلى ما يسمّى بـ « الجيش السوري الحر « المنقسم . وهذا يعني بشكل منطقي أن العناصر السلفية الجهادية التركية ستحظى بحصة جيدة من هذه الأسلحة , وسيكون بوسعها الاحتفاظ بجزء منه داخل الأراضي التركية , مما يثير بدوره مخاوف السلطات التركية .‏

ثالثاً : الأخبار القائلة بأن هناك كمّاً من الأسلحة الواردة للمسلحين الإرهابيين في سورية , يتم تهريبها إلى الداخل التركي . وسواء ذهبت هذه الأسلحة إلى السلفيين أو إلى قوى تركية مناهضة للنظام , فإن ذلك يثير المخاوف من نشوء مقاومة مسلحة , وخاصة في لواء اسكندرون وجنوب الأناضول .‏

رابعاً : ازدياد مظاهرات الاحتجاج ضد سياسة حكومة أردوغان تجاه سورية, وخاصة في لواء اسكندرون . ولا شك أن السلطات التركية تنظر إلى هذه المظاهرات الاحتجاجية الواسعة على أنها تشكل بيئة خصبة لمقاومة محتملة , حيث أن من يلجأ إلى ممارسة العنف المسلح ضد الغير يتوقع أن يقدم الغير على ممارسة العنف المسلح ضدّه .‏

خامساً : ويبقى الافتراض الأهم والأخطر لدى الأمن التركي , وهو أن الأمن السوري لا بدّ وأن يكون قد اخترق المسلحين المناهضين حتى داخل الأراضي التركية , وبالتالي , فإنه قد ينفذ خططاً مضادة تثير مخاوف الحكام الأتراك المستقبلية , خاصة وأن البيئة الحاضنة لديها الاستعداد للتجاوب مع مثل هذه الخطط .‏

أمام هذا المشهد بواجهاته وخلفياته , وبما هو معلنٌ عنه وما هو خفيّ , لا بدّ لتركيا بالذات من وقفة – ولو قصيرة – لمراجعة حساباتها خشية أن يستفحل نشاط المنظمات الإرهابية فيها , ويصل البلل بل الحريق إلى ذقنها . فالمؤشرات – كما أسلفنا – تدلّ على مصدرين للخطر – على الأقل - بالنسبة للسلطات التركية يمكن أن يجدا حاجتهما من السلاح والدوافع التنظيمية على أرضية المؤامرة التي تدار ضدّ سورية , وهما : الجماعة أو الجماعات السلفية الجهادية التركية القابلة للنمو واستغلال الظروف ويمكن أن تنتشر نشاطاتها على كامل الأراضي التركية , ثم المقاومة المحلية في لواء اسكندرون وجنوب الأناضول . وإذا حدث مثل هذا التطور , فإنه يعني إعطاء دفع إضافي لحزب العمال الكردستاني .‏

إن تهريب الأسلحة إلى سورية بات – كما أسلفنا – مصدراً لتسريب أو تهريب الأسلحة إلى الداخل التركي . وقد تزداد هذه العملية مع فشل المؤامرة حيث يجد المهربون في فائض الأسلحة مصدراً لمزيد من الكسب . فإذا لعبت بعض القوى في الداخل التركي دور امتصاص هذه الأسلحة , فإن هذا سيشكل مشكلة كبيرة لتركيا خاصة وبعد أن باتت الأسلحة المهرّبة إلى سورية أو المهيّأة للتهريب إليها أكثر من الهمّ على القلب , وبات السؤال المطروح عمّن يحمل هذه الأسلحة ليهرّبها أكثر من السؤال عن هويته . وهذا ما أثار الخلاف بين تركيا وكل من قطر والسعودية . فتركيا تخشى من تسرب هذه الأسلحة داخل أراضيها أو وصولها إلى أيدي الجماعات السلفية الجهادية التركية أما السعودية وقطر فلا تهمهما مثل هذه العملية الحسابية , بل تعملان بعكسها كما أوضحنا سابقاً .‏

وإضافة إلى ما سبق , فإن تركيا تتحسب من احتمال خطير إضافي , وهو أن تلجأ سورية ببساطة إلى إعادة تصدير الأسلحة التي جرى تهريبها إليها للبلدان التي فعلت ذلك . ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تكون تركيا هي البلد المرجح إعادة البضاعة القذرة التي هرّبها إليه , وأن تُرّدّ إليه هداياه . فكلما أحسّت الحكومة التركية بأن المؤامرة فشلت استبدّ بها شعور بالقلق والخوف حتى أن قادتها باتوا يستجدون ولو انتصاراً شكلياً يريحهم من أعباء كبيرة يحسّون بأنها قادمة دون ريب .‏

إنّ آل سعود , وقد أحسّوا بأنّ تركيا باتت تتصرّف على خلفية مخاوفها , فتحاول التحكم باللعبة بعض الشيء بما يتفق مع مخاوفها , أرادوا أن يعبثوا بالعقل التركي مفترضين فيه الغباء . فكان ما اصطنعته قناة العربية من أخبار مفبركة , حاولت فيها أن تحيي عظام قصة إسقاط الطائرة . فاللاعب السعودي يريدُ للمؤامرة أن تستمر بأيّ ثمن , ويريد لتركيا أن تتورط حتى النهاية . وهو على كل حال يراهن أكثر ما يراهن على الدور التركي , ذلك أن رهانه على جماعة 14 آذار في لبنان كعملاء ينفذون أوامره تظل جدواها العملية محدودة على الأرض , حيث أن الأوضاع في لبنان قابلة في كل لحظة لانقلاب دراماتيكي في الموقف إذا رأت الأطراف اللبنانية الأخرى أن صبرها على قوى التآمر قد نفد , وأن لعب المتآمرين قد تجاوز الحدود , وبات يشكل خطراً على لبنان لا بدّ من صدّه . كما أن الأردن يمارس اللعبة بتحسب محاولاً الموازنة بين تلبية الضغوط الخارجية وبين مراعاة المصالح القطرية وبين الخوف من انعكاس ما يحدث على أمنه الداخلي والخوف من نمو الجماعات السلفية التكفيرية ومخاطرها , ولنضف إلى ذلك كله مخاوفه من أن تقود الفوضى على حدوده مع سورية إلى نفاذ خلايا المقاومة الفلسطينية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر أراضي الضفة الشرقية .‏

وإذا كان العقل السعودي بطبيعته – إن وجد هذا العقل أصلاً – لا يجدُ مشكلة في استعداء روسيا , بل لعله يُسَرّ بمثل هذا الاستعداء , فإن العقل التركي ليس كذلك . فالعقل التركي يعرف يقيناً أن روسيا لا تمثل دولة جارةً قويّة فقط لا بدّ من وضعها في الحسبان في كل الظروف , لكنّ حاجته إلى العلاقات الاقتصادية معها كبيرة . وإذا كان مسلكه التآمري على سورية قد أثار حفيظة روسيا عملياً , إلا أن الافتراءات السعودية المفبركة أرادت توريط تركيا فيما لا طاقة لها به حتى وإن كان حلف الناتو وراءها . فحلف الناتو لن يذهب إلى حرب عالمية تلقائياً بسبب أكذوبة تافهة يخترعها آل سعود أو سواهم , بعد أن استمرؤوا لعبة التضليل الإعلامي . ولذلك , كان لا بدّ لتركيا من أن تنفي مزاعم « قناة العربية « حتى ولو غضب آل سعود , وأرغوا وأزبدوا , لأن من يظهرهم ككذابين هذه المرة ليس الإعلام السوري وإنما وزير الدفاع التركي شخصياً .‏

إن زيادة الخلافات بين المتآمرين الصغار أمام بوادر الهزيمة هو الأمر الطبيعي والمنطقي , لأن كل طرف يحاول أن يخفف عن نفسه المخاطر المحتملة التي تترتب على فشله . لكن المخاطر بالنسبة لتركيا تظل هي الأكبر . ويبقى أهم ما في هذه المخاطر جلب الدب الوهابي التكفيري إلى كرم الأتراك أنفسهم . ومن المؤكد أن مخاطر هذا الدب وحده تكفي , وأن الأتراك في غنى عن محاولات السعودية للوقيعة بين تركيا وبين الدب الروسي أيضاً من أجل تنفيذ خططها ضد روسيا والدول الإسلامية في القوقاز . وفي مثل هذه المحاولات فإن السعودية تحتاج إلى الجغرافيا التركية معبراً وممراً للأسلحة والمسلحين باتجاه القوقاز وروسيا مثلما احتاجت إلى الجغرافيا التركية معبراً للأسلحة والمسلحين باتجاه سورية . وقد تبيّن حتى الآن أن تشكيلة الإرهابيين الذين حشدهم آل سعود وشركاؤهم ضد سورية تتضمن جنسيات كثيرة بما في ذلك من مناطق القوقاز ودوله . ولكن , هل تستطيع الحكومة التركية أن تنتقل من المغطس لتقع في الطابوسة ؟ . إن موقع تركيا الجغرافي لا يسمح لها بالتمادي في لعبة من هذا النوع , والحكومة التركية الآن تواجه مخاطر المساءلة على خرقها للدستور التركي , بينما حكام دول مجلس التعاون الخليجي معنيون بتنفيذ ما تطلبه أمريكا منهم دون أن يكترثوا بالنتائج التي يمكن أن تترتب على هذا السلوك . ولنا أن نتصور الوضع إذا ما تحشد المنفلتون من خليط الإرهابيين الذين جلبوا إلى سورية , في الأراضي التركية كملاذ قريب لمعظمهم , وكان على مجنديهم أن يحدّدوا لهم اتجاه حراكهم اللاحق . فإذا كان ممكناً أن يعود المجلوبون من شمال إفريقيا إلى شمال إفريقيا , فإن القادمين من آسيا لن يسمح لهم بالتوجه إلى الجزيرة العربية ولا إلى باكستان وأفغانستان . وسيكون أمامهم ممر إجباري هو « باب الأبواب « أو الممر الذي قيل في الأسطورة إن ذي القرنين مرّ عبره وبنى فيه السدّ ما بين بحر الخزر والبحر الأسود ليمنع يأجوج ومأجوج من عبوره , أو إن شاء القارئ فإنه « الستار الحديدي « الذي قيل بانهياره مع تفكيك الاتحاد السوفياتي السابق لكنه يعود الآن إلى الوجود بملامح خط دفاعي مع نهضة روسيا . ومن المؤكد أن الأوروبيين ومن ورائهم الأمريكيون سيضغطون على الأتراك لجعل عناصر الإرهاب تسلك ذلك الممر الوحيد حتى لا تسلك الطريق باتجاه أوروبا .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية