|
حـــــلب العلماء والمفكرون أعمدة الماضي والحاضر ملحق ثقافي
ومن الممكن جداً أن تسلب رقة مدينة ما وعذوبتها عقلك وتستحوذ على فكرك. لكن أن يجتمع هذا كله في مدينة واحدة فهو نادر جداً، وقلَّ أن تجده إلا في بعض المدن السورية وحلب الشهباء واحدة منها، لا بل إنها ستضيف لك أشياء كثيرة وتعلملك أخرى يستحيل أن تتعلمها من غيرها تماماً كما حدث مع الروائي والقاص السوري وليد إخلاصي الذي يقول في هذه المدينة:" أعيش في مدينة حلب التي لعب قدمها وقلعتها دوراً كبيراً في تفكيري التاريخي والمستقبلي أيضاً. أنا متمسك بحبي للمدينة، وأكتشف يوماً بعد يوم أني مسؤول عنها وعن التعبير عن وجودها، وكثيراً ما أكتشف حبي للوطن الأكبر، وللعالم بأسره من خلال هذه المدينة- "السيدة الجميلة".
وحلب هي التي ألهمت عمر أبو ريشة الشعر وأكسبته الرقة والديبلوماسية، فتمثّلت فيه عبقرية المتنبي، وتجلّت في قصائده ديباجة البحتري، وجزالة ابن أبي ربيعة، ورقّة أبي فراس الحمداني. من غير أن يدرس علم العروض، ولمَ دراسة علم العروض وهذه المدينة تهب أبناءها أذناً موسيقية قل أن تخطئ، ولهذا جاءت أشعار عمر أبو ريشة في منتهى الدقة والفصاحة والانسجام، فضلاً عن السمو والإشراق والتجديد الدائر في فلك الفصحى، والمشرق بأنوار الأصالة الفنية الخالصة. ولم لا تلهم هذه المدينة أبناءها وقاطنيها، وهي التي ولدت، كما يقول وليد إخلاصي،يوم كان التاريخ يجهل التدوين, وقد تخلّقت بداية في رحم صغيرة لأرض واسعة امتدت تضاريسها وتنوعت ما بين كثبان رمل وهضاب كوّنها الصخر وغابات اختارها الزمن القديم لتكون سورًا يفصل نهر الفرات من الشرق عن شواطئ البحر الأبيض في الغرب, وكأنما كتب على الصبية الشهباء منذ البداية أن تكون وسطًا. و.يبدو أن إنسان المدينة النواة, وهو يشق لنفسه كهوفًا في تلال من حوار, كان يكتب الحماية لنفسه ولآلاف الأجيال من بعده, وتقوده غريزة البقاء إلى جعل (حلب) خطًا يهدف في ديمومته إلى ربط الزمن الضارب في القدم بالأيام الذاهبة بثقة نحو المستقبل.وقد شهد التاريخ ولادة مدن كثيرة, شبت وترعرعت وقوي وجودها في ممالك ومراكز حضارية لامعة, إلا أنه ما يلبث عادة أن يطرق حزنًا وهو يشهد مدنها الواحدة تلو الأخرى, فكان له عزاء حقيقي في حلب وهي تعلن عن بقائها مستمرة في الحياة, متنامية أبدًا كشجرة الياسمين السحرية تتفتح نواراتها في الفصول كلها.ولأن هذه المدينة بالغة السطوة والتأثير على مخيلة أبنائها البسطاء منهم والمشتغلين بالأدب أيضاً،فإنك تجد الكثافة والدلالة في كل ركن وحركة، وانطلاقاً منه، يتساءل محمد أبو معتوق كيف لأديب مثله بالغِ الاتكال على ثقافته البصرية «المشهدية» والسمعية المقروءة، بمعنى بالغ الاتصال بروح المكان والكائن إلى الحد الذي لا يتورع فيه عن مخاطبة جدار ونصب، أن لا يقع وقوعا مدويا في دائرة هذا التأثير. ولأن حلب لا ترضى إلا أن تكون سيدة في كل شيء فإنها تصدرت سيادة فن الموشحات، هذا الفن الذي انتقل إليها من غرناطة في الأندلس وقد اتبع الوشاحون الحلبيون في الموشحات الأندلسية طريقة غنائها وليس طريقة نظمها، فقطعوا الإيقاع الغنائي على الموشحات الشعرية وعلى الموشحات الأخرى التي لا تخضع بطريقة نظمها لبحور الشعر، ثم طبقوا أسلوب الأندلسيين في تلحينها، إلا أنهم خرجوا عليها في المقامات بحيث غدت الأدوار مطابقة في غنائها للحن الغطاء دون الخانة التي يكون لحنها مخالف للحن الدور الأول والغطاء، وبذلك اكتسبت الموشحات الأندلسية التي لحنت بالطريقة الحلبية كثيرا من التحسينات التي أسهمت في تطويرها، كما أضاف الحلبيون على غناء الموشحات نوعاً من الرقص عرف باسم رقص السماح وكان إلى ما قبل نصف قرن من الزمن مقصوراً على الراقصين من دون الراقصات وبفضل الفنان الحلبي عمر البطش تطور رقص السماح فغدت حركات الأيدي و الأرجل خلال الرقص تنطبق مع إيقاعات الموشحات بحيث يختص كل إيقاع إما بحركات الأيدي وإما بحركات الأرجل أو بالاثنتين معاً. من جهة أخرى فإن مدينة حلب وبالرغم من انقضاء مئات السنين مازالت تحفظ في أعطافها ذكرى شخصيتين من أبرز رجالات العلم والتصــوف, الأول السـهروردي (1154-1191) والثاني هو النسيمي (1370-1417), ويحمل معنى استعادتهما الدائم على المستوى الفكري والشعبي بالرغم من ظروف مقتلهما التراجيدي, مغزى عميقًا في تمازج الديني الروحي بالحياتي السلطوي ويظهر مدى الارتباط القوي للذاكرة الحلبية بذلك التمازج, وكأنه يحاول أن يعوّض عن اضطهادهما بتعميق رسوخهما في الوجدان كأشكال ميتافيزيقية لتضاريس إنسانية شفافة.وإذا كانت مدينة حلب التي يُحتفى بها اليوم عاصمة للثقافة الاسلامية قد ألهمت الشعراء والكتاب والروائيين والعلماء، فإنها وبرفضها للاستبداد والاستعباد ونزوعها الدائم نحو التحرر والتقدم والحداثة مع المحافظة على الأصالة، شكلت مادة دسمة للمفكرين والباحثين الذين ترعرعوا على أرضها وشربوا من لبنها السائغ النقي، ولعل من أبرز هؤلاء المفكرين فرنسيس مراش أحد أهمّ أقطاب التّنوير والحداثة في الفكر العربيّ الحديث دون منازع . فالقضايا والموضوعات الّتي تمحورَ فكرهُ حولها لا تزال تحتفظ بحضورٍ قويٍّ في الحياة الفكريّة والسّياسيّة العربيّة في أيّامنا هذه. حتّى ليعتقد المرء أنَّ فرنسيس مراش ليس ابن القرن التّاسع عشر بل ابن لحظتنا التّاريخيّة الرّاهنةِ بكلّ ما تحمله الكلمةُ من معنى، فرغم رحيله عنّا قبل أكثر من مائة وإحدى وثلاثين سنة . لا تزال الدّعوة للمُعاصرة والحداثة، والانفتاح على المدنيّة والثّقافة العالميّة،والتّغيير، والحرّيّة،والدّيمقراطيّة، والمواطنة، والمساواة، والدّولة الدّستوريّة المجتمعيّة، وسيادة القانون، أبرز ما يستحوذ على اهتمام المفكّرين العرب اليوم، ولا غرو أن تتطابق رؤى وأفكار كِبار المفكّرين العرب في زماننا مع رؤية مراش في العصر الحديث، طالما أنَّ المجتمع العربيّ لم يُفلِح في تجاوز وحلّ المشكلات الأساسيّة الّتي يُكابِدُها منذ عدّةِ قرون إلى يومنا هذا. وبالرغم من عجزنا عن الحديث حتى عن القليل من أولئك المفكرين والشعراء والعلماء الذين أنجبتهم حلب وقدموا الكثير للعالمين العربي والإسلامي، ولهم يعود الفضل في اختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2006، قلت بالرغم من عجزنا عن الحديث عن الكثيرين، منهم إلا أنه لا يمكننا إلا أن نتحدث ولو بأسطر قليلة عن المفكر العروبي التحرري عبد الرحمن الكواكبي، والذي ولد عام 1271هـ _ 1854 م لأسرة عربيّة قديمة في حلب، وتلقّى علومه في المدرسة الكواكبيّة، وعلى أيدي عدد من مشاهير علماء حلب. حيث عملَ في الصّحافةِ والمحاماة والتّجارة في حلب، وتولّى بعض المناصب الرّسميّة فيها، قبل أن يتعرّضَ للاضطّهاد والسّجن مراراً وتصادر أموالهُ وممتلكاتهُ، ليهاجر فيما بعد من حلب عام 1318هـ _1900 م حيثُ طوّفَ في الجزيرة العربيّة وشرقي أفريقيا والهند والشّرق الأقصى . قبل أن يستقرَّ في مصر، ويؤلف عدداً من الكتب التي مازال أحدها على الأقل يشغل الناس حتى اللحظة وهو "طبائع الاستبداد"، بالإضافة إلى كتابه "أم القرى" وطُبِعا أوّلَ مرّةٍ في حياته، كما ألّفَ ( العظمةُ لله، وصحائف قريش ) وقد فُقِدا مخطوطان مع جملة أوراقه ومذكّراتهِ ليلةَ وفاته، إذ توفي مسموماً بفنجان قهوته عام 1902. شكراً لأولئك المفكرين والكتاب والشعراء الذين استطاعوا أن يجعلوا من حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، وشكراً لكل من سيستمر على نهجهم ليسير بحلب الشهباء نحو العالمية أكثر فأكثر.
|