مدينة حلب و 10 آلاف سنة من عمر الزمن
ملحق ثقافي 21/3/2006م عبلة كنفاني لا شك أن من أهم العوامل التي أهّلت مدينة حلب لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية ذلك العمق التاريخي للمدينة، ما لم يتوفر لغيرها من المدن، فهي الأكثر قدماً بين مدن العالم،
وهي الحاضنة لكل الثقافات البشرية وللأديان والعقائد في هذه المنطقة، وقد كان هذا التنوع الثقافي الإسلامي أنموذجا لتطور العقائد في التاريخ البشري الذي مثّلت مدينة حلب أبهى صوره منذ الفتح الإسلامي وحتى الآن والذي اختزل حركة الثقافة الإسلامية عبرّ العصور، وهي المدينة الإسلامية الوحيدة في العالم التي تضم تراثاً عمرانياً يمثل كل المراحل الإسلامية بدءاً من «جامع الشعبية» الذي أقيم مع الفتح الإسلامي وعهد الخلفاء الراشدين إلى الأمويين وعصور الزنكي والأيوبي والفاطمي والمملوكي والعثماني والمعاصر، وهذا يعني أنها حاضنة ثقافية ساهمت بالكثير الإيجابي عبر مسيرة الحضارة الإنسانية. تتربع قلعتها الحصينة التي ردت عن ثرى حلب غزوات الطامعين عبر العصور على قمة رابية تفرش أمانها على المدينة،
وشاهدة.. تقوم مساجدها وتصدح مآذنها في كل يوم خمس مرات بـ الله أكبر منذ أنطلق أول نداء من على مئذنة مسجد باب إنطاكية، والجامع الأمويّ الذي تحول إلى مدرسة روحية تقوم إلى جانبها كنيسة الحلوية التي مازال مذبحها البيزنطي جزءاً من تراثها المعماري «المسيحي ـ الإسلامي» ظاهرا للعيان، وداحضاً لكل تهمة، ودليلاً واضحاً على تآلف الأديان والتنوّع الحضاري الذي أهّل مدينة حلب على امتلاك مساحة ثقافية متكاملة لحركة وحرية المذاهب والشرائع لتشكل نتاجاً إسلامياً إنسانياً مارست كل الطوائف والقوميات التي سكنت حلب طقوسها ومفاهيمها على قاعدة ثقافة الحوار وقبول الآخر، ووحدة الفهم العام بأن الدين لله والوطن للجميع. حلب أقدم مدينة على وجه الأرض، تجاوز عمرها المعروف الـ 10 آلاف عام وما زالت في ريعان صباها، حافظت على التاريخ والتراث الروحي، ونبضت بين جنباتها ثقافات أصيلة رسخت وانتشرت على مساحة العالم محمولة في ذاكرة أبنائها البررة الذين كانوا وما يزالون عدّتها وعتادها، ولعل أهم ما يميّزها كمدينة أصيلة أنها صمدت وعاصرت صنوف المذاهب الإسلامية. يقول الدكتور أحمد حسون المفتي العام للجمهورية العربية السورية وعضو لجنة الإشراف العليا: (لقد عاصرت مدينة حلب بعض المذاهب الإسلامية المتنوعة، فمن الثقافات الصوفية التي كان يعيش في جنباتها السهروردي والنسيمي، ومرّ بها ابن عربي وجلال الدين الرومي فكراً، ثم احتضنت الفكر الجعفري يوم كان بنو حمدان يحملون راية الجهاد، كما احتضنت حلب حران وفكرها في ابن تيمية وعدد من المفكرين وعلى رأسهم عبد الرحمن الكواكبي الذي يُمثل فكره نبضات ثقافة ابن تيمية وعبرّ عن ذلك في كتابه (أم القرى)، كل ذلك كان وليداً للبيئة الحلبية التي استطاعت أن تحتفظ بهذا الكنز وتناقله من الآباء والأجداد إلى الأولاد والأحفاد.) هي صفحات مشرقة وأصيلة من تاريخنا، أتناول جانباً قريباً من ذلك التاريخ يعبّر عن أصالة مدينة حلب عندما كانت مركز القوّة وسياج الأمان والحامية للأديان والإنسانية. إنها باختصار سيرة سيف الدولة الحمداني من أصل أسرة الحمدانيين ومؤسسها «حمدان بن حمدون التغلبي» صاحب قلعة «ماردين» القريبة من «الموصل»، ويعود نسبها إلى تغلب بن وائل بن قاسط رأس قبيلة تَغْلِب الشهيرة، والذي ينتهي نسبه إلى ربيعة بن نزار. فقد أعطي فكرة عن أصل وعظمة مدينة حلب. كانت تغلب من أعظم قبائل ربيعة شأنا في بلاد العرب قبل الإسلام، وقد حقق هذا الفارس «سيف الدولة الحمداني» المسلم النبيل وجنده الأوفياء انتصارات عظيمة على فتنة «الشاري» وعلى «البريديين» الذين اقتحموا بغداد عام (330هـ ـ 942م) ودفعوا الخليفة العباسي «المتقي لله» إلى الخروج منها. وحقق المزيد من الانتصارات على الروم والبيزنطيين، واستطاع أن يصدّ هجماتهم، كما تمكن من المحافظة على حدود الدولة الإسلامية ضد غاراتهم، واستطاع أن يتوغل داخل حدود الدولة البيزنطية. وانتصر على الإخشيديين الذين خشوا من تعاظم نفوذه وقوة شوكته؛ فتحركوا لقتاله، ولكنهم ما لبثوا أن آثروا الصلح معه بعد أن لمسوا قوته وبأسه. كما حقق سيف الدولة إلى جانب حمايته ثغور الدولة ورد هجمات الطامعين حياة اجتماعية وعمرانية وزراعية وتجارية وثقافية وظروف اقتصادية مثالية. ومراكز تجارية مهمة في حلب والموصل والرقة وحران وغيرها. قالوا: (ما اجتمع على باب حاكم من العلماء كما اجتمع في بلاط سيف الدولة) ولعل في هذا القول المتفق عليه بلاغة ودلالة. كتب سمير الحلبي تحت عنوان «سيف الدولة.. لمحات تاريخية وثقافية»: (كان سيف الدولة يهتم بالعلوم، وظهر في عصره عدد من الأطباء المشهورين، مثل «عيسى الرَّقي» المعروف بالتفليسي، و«أبو الحسين بن كشكرايا»، كما ظهر «أبو بكر محمد بن زكريا الرازي»الذي كان أعظم أطباء الإسلام وأكثرهم شهرة وإنتاجا. ومن أبرز الفلكيين والرياضيين الذين ظهروا في عصر الحمدانيين في بلاد الشام «أبو القاسم الرَّقي»، و«المجتبى الإنطاكي» و«ديونيسيوس» و«قيس الماروني»، كما عُني الحمدانيون بالعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق، فلَمع نجمع عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين في بلاط الحمدانيين، مثل: «الفارابي»، و«ابن سينا». أما في مجال العلوم العربية؛ فقد ظهر عدد من علماء اللغة المعروفين، مثل «ابن خالويه»، و«أبو الفتح بن جني»، و«أبو على الحسين بن أحمد الفارسي»، و«عبد الواحد بن علي الحلبي» المعروف بأبي الطيب اللغوي. كما لمع عدد من الشعراء المعروفين، مثل «المتنبي»، و«أبو فراس الحمداني»، و«الخالديان: أبو بكر، وأبو عثمان»، و«السرى الرفاء» و«الصنوبري»، و«الوأواء الدمشقي»، و«السلامي» و«النامي». وظهر كذلك عدد كبير من الأدباء المشهورين، وفي طليعتهم «أبو فرج الأصفهاني» صاحب كتاب «الأغاني» الذي أهداه إلى سيف الدولة؛ فكافأه بألف دينار، و«ابن نباتة»، وظهر أيضا بعض الجغرافيين، مثل: «ابن حوقل الموصلي» صاحب كتاب «المسالك والممالك».) ومن أهم المعالم الشاهدة على عظمة الفارس والمدينة «قصر الحلبة» المشاد بروعة وفخامة وجمال الصنعة الإسلامية العربية في معالم بنيانه على سفح جبل الجوشن، فخرج آية من آيات الفن المعماري، إلى جانب اهتمامه ببناء العديد من الحصون والقلاع والمساجد. إن آثار تلك النهضة الثقافية والحضارية شاهدة على عظمة المدينة الخالدة، وأثرها في الفكر العربي والثقافة الإسلامية والتعايش المثالي بين الأديان، وعلى مدى قرون عديدة وأجيال متعاقبة. من أجل كل هذه الأسباب مجتمعة اختيرت مدينة حلب التاريخية، الرابضة شمال الجمهورية العربية السورية لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006 وقد جاء هذا الاختيار من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته المنعقدة بالجزائر عام 2004 وبالتعاون مع منظمة الثقافة الإسلامية على اختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية فهي مدينة تجاوز عمرها عشرة آلاف عام ومازالت تنبض بالحياة. وقد تم الاختيار بالإجماع على أن تكون «مكّة المكرّمة» مهد الوحي العظيم للإسلام هي أول عاصمة ثقافية للعام الحالي 2005 وان تكون حلب بالمشاركة مع أصفهان الإيرانية عاصمة للثقافة الإسلامية، وصدرت القرارات المنفذة لذلك. وستعلن حلب أنها بحق مركز حضاري وثقافي متقدم على خارطة مدن العالم، وأنها بأبنائها وساكنيها ومحيطها العربي والإسلامي تقول للعالم أجمع، هذا وجهنا، وهذه أخلاقنا، وها نحن نمثّل أرقى احتضان لكل الثقافات الدينية والاجتماعية في دائرة وطن واحد حباً وإخاءً بين أبنائها وقيما نبيلة أبعد ما تكون عن تهمة الإرهاب، فالإسلام دين العدل والرحمة، والعرب أهل المروءة والأصلاء في مسألة التعايش واحترام فكر الآخر، وهذه كانت شريعتنا ورسالتنا منذ ولادة السيد المسيح، وهجرة نبيّ الرحمة والعدل محمد عليه الصلاة والسلام. وستبدو حلب بحلّتها الباهية صبيّة رغم عمرها الموغل في القدم.
|