تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بمناسبة مرور ربع قرن على رحيله التشكيلي عدنان ميسر الريادة السريالية في الفن السوري

ملحق ثقافي
21/3/2006م
محمود مكّي

ما أشبه عالم الفنان بعالم الغابة الكبيرة التي قد ترى فيها أشياء كثيرة من الغرابة والخوف والدهشة... إلى حد الإلحاح بدعوتك بقوة إلى التفكير... حتى درجة التأمل والشرود بعيدا عما حولك... إلى ما وراء الواقع المعاش...

‏‏‏

فالفنان الموهوب هو الإنسان القادر على إبداع لحظة من اللحظات التي تجعلك مشدودا إليها بقوة كبيرة إلى شيء جديد لم يخطر في بالك، أو لم تكن تتوقعه أبدا...!! إنها، لا شك، لحظة مواجهة حقيقية... لحظة الصعق... لحظة المعجزة من لحظات العطاء النبيل والبذل... هكذا الدخول إلى عالم الفنان... قد يكون صعبا للغاية لأنه يدعونا للحيرة فيما يقدمه... أنت ترى الغابة... !؟ ولكنك قد لا تعرف أي الدروب تقودك إلى قلبها... فقد تسلك دربا لا يعطيك كل الجمال الذي تحويه... فتكتشف انك تدور حول أطرافها... وقد تخاف من الولوج إلى أعماقها خشية الضياع فيها فلا تستطيع الخروج منها... ولكن رغبتك القوية في المغامرة والكشف عن المجهول تدفعك بقوة شديدة إلى الإقدام والمغامرة في متاهاتها الداخلية... عندها قد لا تراها بالعين، بل بالقلب الذي لا يعرف الشبع من الجمال الحقيقي، والمتع الحسيّة التي تزيد من مفاهيمك المعرفية في شؤونها الداخلية الخافية عليك لولا إبداع هذا الفنان...!!؟ .‏‏‏

‏‏‏

هكذا تشعر وأنت تتأمل أعمال الفنان (عدنان ميسر)... بل إن عالمه قد يكون أكثر غرابة... وأكثر دهشة... عندما تدرك الحقيقة الكائنة فيها... نشأته وحياته ولد الفنان الرائد (عدنان ميسر) في مدينة حلب في عام (1921) من أسرة ميسورة ماديا، وأخوه الشاعر الكبير المعروف (اورخان ميسر)، وصديق العائلة الشاعر السريالي المعروف الدكتور (علي الناصر)، الرائد الأول في الشعر السريالي الحديث، والرائد في إبداع تفعيلات الشعر الحديث ؛ لذلك ظهرت ميوله الفنية باكرا من حياته ؛ واستطاع أن يتعلم الموسيقى والعزف ذاتيا على العود والكمان والمندولين، وقد قدم عدة معزوفات خاصة استطاع بها أن يمزج الأصوات الموسيقية بين الكمان والمندولين في وحدة تناسقية جميلة... تعلم الفنان التصوير الفوتوغرافي ومارسه عمليا في بيته، وقدم فيه مجموعة كبيرة من أعماله الفوتوغرافية بأسلوب واقعي مميز مزج فيه بين التصوير الفوتوغرافي والرسم الفني،‏‏‏

‏‏‏

ودعا هذه الطريقة (فوتو بينت)، كما في لوحته الشهيرة (آفاق جديدة)، فنال إعجاب المجلة الأمريكية (أرت فوتوغرافي) التي نشرت له عددا من صوره... تعلم الفنان (عدنان ميسر) اللغة التركية عن والدته ؛ واللغة الفرنسية في معهد اللاييك بحلب ؛ واللغة الإنكليزية في الكلية الأمريكية بحلب ؛ وأخيرا تخرج من كلية الهندسة الكهربائية من جامعة حلب في عام (1941) .. بدأ حياته الفنية عندما كان طالبا في كلية الهندسة حيث اسند إليه منصب رسام المجلة في الكلية والتي كان يحررها طلاب الكلية، فقام الفنان (عدنان ميسر) برسم لوحات كاريكاتيرية تمثل الحياة الطلابية في الكلية، فكانت هذه الرسومات مثار الإعجاب الشديد بها لما تحويه من قدرات هائلة في الإبداع الفني، ولعله يعتبر الفنان السوري الأول الذي رسم الكاريكاتير، حيث منها اكتشف نفسه وعرف طريقه نحو المستقبل، وان الرسم هو الوسيلة التي يستطيع بها التعبير عن أفكاره وآرائه في الحياة... أقام الفنان (عدنان ميسر) عدة معارض فنية في سوريا وخارجها وأصبح معروفا عالميا،‏‏‏

‏‏‏

ونال الإعجاب على أسلوبه الفني ومواضيعه الفكرية التي تمثل الحالات النفسية في اللا واعي فانتقلت شهرته إلى العالم الخارجي ودعي لإقامة معارضه فيها... قام الفنان (عدنان ميسر) برسم لوحات لكتاب الدكتور الشاعر ((علي الناصر)) الذي عنوانه (اثنان في واحد) وهي تمثل الرؤية الواضحة لما قدمه الشاعر في ديوانه حول السريالية الشعرية الحديثة، وقد نشر الكتاب في عام /1962/ وقد اعتبر الشاعر من أوائل من كتب الشعر الحديث في العالم العربي قبل الشاعرة نازك الملائكة... شارك الفنان (عدنان ميسر) في المعارض الرسمية بين عامي /1950- 1954 / حيث أثارت أعماله الفنية الدهشة في الوسط الثقافي والفني بما تحويه من جرأة في الأسلوب والطرح في الموضوع... وقد حجبت عنه الجائزة الأولى عدة مرات بسبب أسلوبه السريالي الجديد على الوسط الثقافي ومواضيعه الجريئة فيها... في عام /1959/ نال تكريما خاصا من وزارة الثقافة على جهوده الفنية التي قدمها خلال حياته الفنية... استقر الفنان (عدنان ميسر) فيما بعد، في مدينة دمشق وتوفي فيها عام /1979 /... حول تجاربه الفنية قامت عدة مجلات أوربية وأمريكية بكتابة دراسات مفصلة حول لوحاته السريالية ومواضيعها المميزة ؛ وخاصة في مجلة (سيكولوجي) الأمريكية ونشرت فيها عددا من لوحاته، وقد اعتبرته المجلة واحدا من اشهر الفنانين السرياليين في العالم كله... كتب عنه الدكتور (ريمون بابير) أستاذ الفلسفة في جامعة (سيراكوز) بنيويورك يقول : ((إن الخلق والإبداع في لوحاتك لهائلان جدا، وطريقتك في التعبير ديناميكية الشكل وذات طابع غريب، لقد انتقيت لوحتك (يوم الآخرة) من بين ما يقرب من خمسة آلاف لوحة وردتني من مختلف أقطار العالم وسـأنشرها في كتابي الضخم (الفن واللاهوت) مع اللوحات الأخرى التي انتقيتها من إنتاج فنانين من مختلف الأقطار العالمية، وسأنشر إلى جانب لوحتك تفسيرا موجزا عنها ولمحة عن تاريخ حياتك، ويبدو لي انك الوحيد من بين فناني الشرق الأوسط الذي سأدخل إنتاجه الفني في هذا الكتاب...)) . كتب عنه الفنان العالمي (والت ديزني) في عام /1951/ وهو مخترع الصور المتحركة في السينما (توم وجيري)، كما كتب عنه الناقد التشكيلي (سيرين بالميسانو) رئيس تحرير مجلة (أرت فوتوغرافي) في عام /1954/، يقول : ((إن طريقتك المبتكرة في دمج التصوير الفوتوغرافي مع الرسم والتي أسميتها (فوتو بنيت) الممثلة في لوحتك (آفاق جديدة) هي فريدة من نوعها، ونطلب منك تزويدنا عن كيفية هذه الطريقة...)) وكتبت الناقدة التشكيلية (جير نسياك) عن رسوماته في مجلة (سيكولوجي) الصادرة في روما... وكتب عنه (وليد إخلاصي) يقول : (إن الفنان ميسر في سرياليته تلك رمز لتسامي الفكر البشري متسلقا نحو الأفضل والرقى... إلا أن إنتاجه المتكاثر في المستقبل سيعطينا أملا آخر في تقصي هذه السريالية السورية المتفردة...) وكتب عنه الأديب الكبير (الياس مقدسي) في مجلة (العالم) التي تصدر في لندن يقول : (رائد المدرسة السريالية في الوطن العربي... لذلك لم يكن غريبا على مدينة عريقة مثل حلب أن تطلع علينا مثل هذا الفنان الذي يعتبر رائد المدرسة السريالية في الفن العربي الحديث...) الحديث عن تجربة الفنان الرائد (عدنان ميسر) يعني الحديث عن تجربة فنية رائدة في الفن السوري سادت في النصف الأول من القرن العشرين، وعن المفاهيم الأساسية للفن التي كانت سائدة بين الناس فيها، والتي كانت قاصرة عن المفاهيم الحديثة للفن في العالم، وخاصة مدارس الفن الحديثة كالتجريدية والسريالية... حيث كانت الحركة التشكيلية السورية في مهدها الأول، ولهذا السبب حجبت عن الفنان (عدنان ميسر) الجائزة الأولى في احد المعارض الرسمية المقامة في دمشق في بداية الخمسينات... استطاع الفنان (عدنان ميسر) أن يستمر في عطائه الفني المميز بحيث وجد في الخارج صدى طيِّباً لأعماله حتى طلبوا منه إقامة معارض خاصة لأعماله الفنية التي أدهشت الناس بما تحويه من غرائب فلسفية ونفسية... تعتبر أعماله في الحركة التشكيلية السورية رائدة لمذهب المدرسة السريالية من حيث الشكل الفني ومن حيث المضمون الفكري والفلسفي، واستطاع بكل قوة للوصول إلى المبادئ الأساسية للمذهب السريالي في الفن العالمي، فجاءت أعماله تعبيرا عن الحياة الاجتماعية بمفاهيمها صورة واضحة للواقع المرير، ومن البديهي أن تكون المرأة المحور الرئيسي في أكثر أعماله الفنية والتي تثير اهتمامه أكثر، وخاصة في قضاياها المتنوعة، تعنسها، قلقها، وأمراضها النفسية، وعواطفها الدفينة وراء الحواجز التي يصنعها واقعها الظالم... أما من حيث الشكل للتجربة، فإننا نلاحظ بوضوح مدى اهتمامه بالتفاصيل والجزئيات الدقيقة في النماذج التي يتناولها في أعماله، ولكنها تبدو مرحلة من مراحل الإتقان بالشكل لبروز قدرته الفائقة في الأداء، إلا انه يمارس فيها الإيغال في تصوير ما وراء الواقع ليفقد أهمية هذه التفاصيل الدقيقة في الشكل الفني لتبقى الفكرة الفلسفية هي الأساس الأولي في لوحته الفنية، وهي التي يسعى إليها بجد لتسمو بالحياة وليرفعها عن الواقع، وبهذا يعطي للعقل الإنساني فسحة واسعة لأهميته الكبرى في الحياة، وليثيره بقوة للبحث والتفتيش عن الحقيقة الخفية ما وراء الواقع... ما وراء الحواجز... وما الفراغ الكبير الذي نراه في لوحاته ويحيط بها، إلا عبارة عن وضع الإنسان في جو الصمت الرهيب والمتوتر أو المتحفز... وهو، أيضا، تعبيرٌ عن البعد الزمني الرابع للموضوع الفلسفي والذهني... ذلك الفراغ الواسع والمخيف الذي يحيط بالواقع المؤلم للإنسان... من هنا نلاحظ أن أعماله الفنية بمجملها لا تشكل سوى المهارة والدقة في الصنعة التي تخدم في نهاية الأمر أغراض الموضوع أو الفكرة من جميع جوانبها الفلسفية والخافية... أو الغائبة عنا وعن عقولنا القاصرة... إن أهم أعماله الفنية لوحته الشهيرة (مادونا)، وهي تعبير عميق عما تجيش به النفس المعذبة للمرأة ذات الرغبات المحطمة... مادونا، هي المرأة التي أحاطت بها الأشواك وضربت دونها الحواجز والسدود... تبقى تجربة الفنان الرائد ( عدنان ميسر) التجربة الرائدة الأولى في الحركة التشكيلية السورية للمذهب السريالي في وقت كانت المفاهيم النقدية قاصرة، وغير قادرة عن فهمها الصحيح، ولكن تجربته الفنية الفريدة والجديدة في عالم الفن التشكيلي استطاعت أن تتوسع بمفاهيمها الفنية إلى العالم الخارج لتأخذ دورها الكبير في هذا العالم الواسع ومع الفنانين العظماء... يقول الفنان (يوسف عقيل) في تقديم معرضه : (عدنان ميسر سبق زمنه وسبق فكره وسبق نفسه...)‏‏‏

تعليقات الزوار

Sahab |  cloud3318@hotmail.com | 04/10/2006 05:09

بعد التحية والسلام..أشكركم على هذا الموضوع الجميل للفنان الرائع عدنان ميسر ومن فضلكم أريد أن أعرف مصادر هذا الموضوع او بالاحرى اى شىء عن هذا الفنان وصديقه الشاعر على الناصر لاننى بحثت فى النت كثيرا ولم اجد ما يعرفنى اكثر على هذا الثنائى السريلى الرائع فاذا كان عندكم اسم لموقع ينشر اعمال هذا الفنان فساكون لك من الشاكرين.. تحياتى سحاب

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية