تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الحمدانيون والثقافة

ملحق ثقافي
21/3/2006م
أيمن شعبان

«لم يجتمع قطّ بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء، ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر..»

‏‏

يتسمة الدهر للثعالبي تميز القرن الرابع الهجري بنمو الحركة الثقافية وانتشارها، فإن تفتت وحدة الدولة وقيام الدويلات المستقلة أدَّيا الى ظهور عدة بيئات ثقافية بسبب تنافس الأمراء في جذب الأدباء والمفكرين إليهم كوسيلة من وسائل الدعاية والمباهاة من جهة وولوعاً بالثقافة ذاتها من جانب بعض الأمراء من جهة أخرى. لقد كان الحمدانيون في مقدمة المهتمين بالثقافة في ذاك العصر، ولاغرابة فقد كان بينهم هم أنفسهم شعراء وأدباء ينظمون الشعر ويتذوقونه. وإذا استثنينا سيف الدولة الذي يقف في المقدمة في هذا الميدان، نجد أمراء حمدانيين كثراً حفظت لهم كتب التاريخ والأدب ذكراً عطراً في روضة الشعر والأدب. إن ناصر الدولة وأولاده وأحفاده شغلوا أنفسهم بالحروب والمنازعات الداخلية بالدرجة الاولى، فلم يتح لهم الوقت والجهد لإشادة نهضة فكرية ثقافية كما سنرى في حلب على عهد سيف الدولة، وصحيح أن الأمراء الحمدانيين في الموصل كانوا أقرب الى البساطة فلم يقيموا بلاطاً فخماً ولم يحيطوا أنفسهم بحاشية أدبية كبيرة، غير أنّا -مع ذلك- نجد بينهم شعراء وأدباء. فقد كان أبو زهيرمهلهل بن نصر بن حمدان وأبو العشائر( الذي قصده المتنبي قبل أن يتصل بسيف الدولة) وأبو وائل تغلب بن داوود بن حمدان وأبو المطاع شعراء. وكان أبو تغلب بن ناصر الدولة أديباً شاعراً ومحباً للثقافة، فقد وجدت له أبيات شعرية منقوشة على حائط قصر العباس بن عمور بين سنجار ونصيبين بخطه، وذكر له الثعالبي أيضاً مقطوعة منها قوله في الغزل: لا والذي جعل الموا لي في الهوى خدم العبيدِ وأصار في أيدي الظبا ء قياد أعناق الأسود ما الورد أحسن منظراً من حسن توريد الخدودِ وكان أبو المطاع ذو القرنين بن ناصر الدولة شاعراً ظريفاً حسن السبك جميل المقاصد على حد قول ابن خلكان: ومن شعره قوله: إني لأحسد«لا» في أسطر الصحف إذا رأيت اعتناق اللاّم للشغفِ وقوله: أفدي الذي زرته بالسيف مشتملاً ولحظُ عينيه أمضى من مضاربهِ فما خلعت نجادي في العناق له حتى لبست نجاداً من ذوائبه فكان أسعدنا من ليل بغيته منْ كان في الحب أشقانا بصاحبهِ وإذا رجعنا الى الثعالبي الذي أسهب في تأريخ الحياة الأدبية في عصر الحمدانيين نجده يضم الى الشعراء من أمراء بني حمدان كذلك، حمدان والحسين إبني ناصر الدولة، وقد أورد لهما مقطوعات جيدة من الشعر تدل على البراعة، غير أن أغراضهما- كأغراض شعر أبي المطاع وأبي تغلب- لاتخرج عن الطابع التقليدي. وبرز من شعراء هذا العصر أبو الحسن السري بن أحمد بن السري الكندي الرفاء الموصلي الشاعر المشهور. وكان في صباه يرفو ويطرّز في دكان بالموصل وينظم الشعر حتى برع فيه. ومن شعره اللطيف في وصف مهنته قوله: وكانت الإبرة فيما مضى صائنةً وجهي وأشعاري فأصبح الرزق بها ضيقاً كأنه من ثقبها جاري ولابد أن نشير الى شاعر ظريف برز وارتقى الى مصاف الشعراء المشهورين وهو أبو بكر بن أحمد بن حمدان الخبار البلدي( نسبة الى بلد قرب الموصل)وقد حفظ الخبار البلدي القرآن الكريم وضمن أشعاره كثيراً من الآيات. وفي الميدان الثقافي اللغوي برز أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي ويصفه ابن خلكان بأنه« كان إماماً في علم العربية، قرأ الأدب على الشيخ أبي علي الفارسي» وقد شرح ابن جني ديوان المتنبي وخلف عدة مصنفات في النحو منها كتاب« الخصائص» و«المصنّف» و«سرّ الصناعة» و«التلقين في النحو» و«التعاقب» و«الكافي في شرح القوافي» و«المذكر والمؤنث» و«المقصور والممدود» و«التمام في شرح شعر الهذليين»وغيرها كثير عددها ابن خلكان. وكان أبو الحسن علي بن محمد الشمشاطي الأرمني الأصل معلماً لأبي تغلب بن ناصر الدولة وأخيه ثم أصبح نديمهما ، وبالإضافة الى مصنفاته الأدبية مثل «النزه الابتهاج» و«الديارات» و«أخبار أبي تمام» فإنه كان شاعراً مجيداً واسع الرواية، ترك لنا بعض مقطوعات عذبة في وصف البنفسج والجلنار والتغني بالطبيعة،وكان التشيع يغلب على الشمشاطي شأن كثيرين ممن عاشوا في بلاط الحمدانيين. نجد السرّي الرفاء الذي تغنى بجمال هذه المدينة وترك لنا- كما مرّ معنا- صوراً اجتماعية رائعة وصف فيها الحلاقين والأطباء والسفن وصيادي السمك والحمامات فضلاً عن وصفه مشاهد الطبيعة وأزهارها وأشجارها وغدرانها والسحب والثلج والمطر، بالاضافة الى شعره في المديح والتهنئة والهجاء والغزل والإخوانيات والرثاء. وكذلك برز الخالديان الأخوان الموصليان أبو بكر وأبو عثمان محمد وسعيد ابنا هاشم من قرية الخالدية بالموصل وكانا شاعرين أديبين حافظين وقد جمع أبو عثمان شعره وشعر أخيه، كما تركا تصانيف منها «كتاب حماسة شعر المحدثين» و«أخبار أبي تمام ومحاسن شعره» و«أخبار الموصل» وغيرها. وفي الموصل نجد بالإضافة الى الذين اسلفنا الإشارة اليهم الببغاء والتلعفري. ولعل من خير الأمثلة أن أبا تغلب اقتنى نسخة من كتاب الاغاني لأبي فرج الاصفهاني بعشرة آلاف درهم وعكف على دراسته، فأعجب بما حواه من طرائف الادب حتى أمر أن تنسخ له نسخة اخرى وتجلد ويكتب عليها اسمه، عُبّر عن نفاسة هذا الكتاب بقوله:« لقد ظلم ورّاقه المسكين وأنه ليساوي عندي عشرة آلاف دينار، ولو فُقد لما قدرت عليه الملوك إلا بالرَّغائب» وهو قول ينطوي على تقدير فائق لقيمة هذا المؤلف الذي مازال يعتبر كنزاً لايقدر بثمن في ميدان التراث العربي. لم تقف عظمة سيف الدولة عند شجاعته في ساحة الحرب وانتصاراته الباهرة والوقوف في وجه أعداء البلاد الاسلامية سداً منيعاً حال دون ن تقدمهم واحتلالهم الوطن الاسلامي وحسب، بل كانت له ناحية اخرى من العظمة لاتقل عن عظمته الحربية، فقد كان راعياً للأدب والفنون، وكانت ندوته التي كان يقيمها في قصره في فترات السلم حافلة بالعلماء والادباء والشعراء والفلاسفة الذين يقصدونه من كل صوب، يلقون من كرمه ما يدفع بهم الى تجويد صناعتهم الادبية، بحيث كان هذا الامير العظيم سبباً مباشراً من أسباب ارتقاء الشعر العربي واستحداث فنون جديدة وسّعت دائرته بعد أن كانت محصورة في محيط تقليدي محدود. الكثيرون من الامراء الحمدانيين كانوا مثقفين وكان سيف الدولة اكثرهم ثقافة وأشدهم ولعاً بفنونها لذلك فتح أبوابه لكل عالم حتى إنه« لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزار لما يُمدحُ به وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد القاضي الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت». وقال الغزولي:« كان خطيبه بن نباته الفارقي ومعلمه ابن خالويه ومطربه الفارابي وطباخه كشاجم وخزَّان كتبه الخالديان والصنوبري ومداحه المتنبي والسلامي والوأواء الدمشقي والرفاء والنامي وابن نباته السعدي والصنوبري وغير ذلك». إن الذي يقرأ حياة سيف الدولة يعجب كيف استطاع ان يهتم بالثقافة كل هذا الاهتمام برغم حروبه ومشاغله الكثيرة، ولكن الدهشة تزول حين يعلم ان الحروب كانت -أغلبها- عادة في الصيف أو الربيع، ويبدو أن سيف الدولة خصص ليالي الشتاء للمجامع الأدبية التي كان يعقدها في قصره. كما أن أغلب ما نتج من الادب في هذا العصر كان مكملاً لحروب سيف الدولة يتغنى بانتصاراته ويحثّ الناس على نصرته. ويصف لنا ابن خلكان مجلساً لسيف الدولة فنجد أنه: كان مجمع الفضلاء في جميع المعارف وأن الأمير يجلس على مسند في صدر القاعة وعلى رأسه مماليك يخاطبهم بلغة خاصة لايفهمها غيرهم، ويجلس دونه الحاضرون من العلماء والادباء حسب مقامهم.وكانت الأحاديث التي تدور في هذا المجلس الليلي متنوعة مختلفة لأن سيف الدولة يستطرف كل جديد لذلك كان منْ حوله يتفنون في الابتكار. وإذا اتى احد العلماء بشيء جديد هرع الآخرون الى قراطيسهم وأقلامهم ليدوِّنوه وكان يقدم للحاضرين الطعام والشراب، وحين يتقدم الليل تحضر القيان وكل ماهر في صناعة الغناء. وكان سيف الدولة يغدق على من حوله من أهل الأدب الهبات والعطايا، كل بحسب فضله ونبوغه، فمنهم الخواص كابن خالويه والمتنبي وأبي فراس والنامي، ومنهم من يأتي في المكان الثاني وهكذا، ولاعجب إذا زَخرَ بلاط الحمدانيين بالعشرات من البارزين والمغمورين فقد كانوا« ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة وألسنتهم للفصاحة وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم وحضرته مقصد الوفود ومطلع الجود وقبلة الآمال ومحط الرحال وموسم الأدباء وحلبة الشعراء».‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية