ذلك ما يكشفه كتاب «الأدب الإسباني في القرن العشرين» وهو من تأليف «نيبيس باراندا ليتوريو، ولوثيا مونتيخو غوروتشاغا» وبترجمة رائعة لـ «جعفر العلوني» والصادر مؤخراً عن الهيئة العامة للكتاب - وزارة الثقافة السورية.
فقد لحقت إسبانيا مع بداية القرن العشرين النزعات الأوروبية، وتميزت بأزمة القيم العامة، عملت على الانقطاع الظاهر مع التراث الموروث، سواء كان في سلوك الفنانين أم في موضوعاتهم أم في طرق التعبير. وكان للحركة الرمزية التأثير الأبرز في الأدب، وذلك لكونها تُعبّر عن ذاتية الفنان، وأصالته، باعتبارهما قيماً جوهرية بالنسبة للفن. ورغم أنّ النقد قسم تقليدياً الكتاب الإسبان في تلك الفترة إلى كتاب حداثيين، وكتاب ينتمون إلى جيل ال 98 غير أن كل هؤلاء الكتاب ينتمون إلى جيل نهاية القرن، فـ «أيي إنكلان»، كان واحداً من الكتاب الأكثر تجديداً في تلك الفترة. بدأ عمله داخل تيار جمالي، يعيد خلق عوالم الماضي، ليُسارع بعد ذلك، ويُصوّر مجتمع تلك الفترة، من وجهة نظر تشويهية، تسلط الضوء على مظاهره الفظة والفاسدة. ومن الناحية الشكلية يمتلك إنكلان ملكة لغوية مدهشة، بالإضافة إلى قدرة عالية على تجاوز الحدود الاعتيادية للأنواع الأدبية، مازجاً الأنواع ببعضها، وخصوصاً الرواية والمسرحية.
فيما أنتج بيّو باروخا - الكاتب الذي عُرف بنتاجه الغزير - أعمالاً نثرية شملت مختلف الأنواع الأدبية، تلك الكتابات التي كانت ثمرة الفوضى واللا أسلوب ومجدداًَ في الرواية الواقعية للقرن التاسع عشر من خلال الأفكار الجمالية الجديدة لجيل نهاية القرن. تميزت رواياته الكثيرة بعرض عدد كبير من الشخصيات وبكثافة الحوار، وبالتقنية الانطباعية لعكس الواقع وبالأسلوب اللا خطابي، وطريقة عرض الأفكار، وأما بالنسبة لتصنيف عمله الأدبي، فقد ميز الكتاب بين ثلاث مراحل، تعتبر المرحلة المتوسطة الممتدة بين 1904 - 1913 الأكثر أهمية من بينها، أبدع فيها أفضل أعماله. وأما أنطونيو ماتشادو، فيعرفه الكتاب بشاعر الرمزية، وذلك بسبب كثافة وثقل الرموز التي استخدمها في مسيرته الشعرية.
كما يعتبر الباحثان كتّاب جيل التسعمئة المجددة، الجسر الذي يصل بين جيل نهاية القرن وحقبة الحركات الطليعية. وقد تميزت هذه الحركة بشكلٍ بارز في مجال التأهيل الأكاديمي عالي المستوى، انعكس تأهيلهم في أعمالهم التي تميزت بنزعة فكرية، وبتعبير موضوعي، وكتابة الدراسات كأداة للتعبير عن أفكارهم. أما الطليعية فهو الاسم الذي أطلق على الحركات التي سيطرت على أدب الفترة الممتدة بين الحربين. حركات قامت على أساس الرفض والانقطاع مع كل أشكال الفن السابق، والتي عُبّر عنها بنزعات مختلفة: المستقبلية، التكعيبية، الدادائية.. أما السريالية فقد كانت الحركة التي لاقت أهمية كبرى، وذلك بسبب طول مدة تأثيرها. وثمة حركتان من أصل إسباني هما: الماورائية، والإبداعية. وجاء شعر خوان رامون خيمينز بعد التجارب العديدة التي أخضع لها شعره، في مرحلة الحساسية، مستخدماً جمالية قريبة من جمالية الحداثة، أو فترة الشعر الخالص. متميزاً بالبحث عن الجمال والتركيز على إيجاد الجوهري، ومن هنا كان غياب العنصر الروائي.
وأما مجموعة الـ 27، فهي تتكون من الكتاب الذين ينتمون من حيث أعمارهم إلى لحظة نجاح وانتشار النزعات الطليعية في الأدب الإسباني، وعلى الرغم من عدم اعتبار هذه المجموعة جيلاً أدبياً، إلا أنه جمعتهم في سير حياتهم مجموعة من التجارب المشتركة، وربطت بينهم علاقات صداقة قوية، الأمر الذي أدى إلى تقوية روابط المجموعة الشعرية، وأما شعرهم، فثمة تأثيرات وملامح مشتركة إضافة إلى مراحل عامة تقاسمها ثمانية شعراء شكلوا أساس المجموعة وهم جيل الحركات الطليعية. حيث يُعتبر بيدرو ساليناس واحداً من شعراء هذه المجموعة، وأعماله هي حوار مستمر مع الأشياء والحبيبة، وذلك بحثاً عن واقع الأشياء وراء ما تحجبه في شكلها الخارجي المرئي، ورغم سيطرة الفكرية على شعره، إلا أنه استطاع أن يستخدم لغة مركزة، وبسيطة بمصطلحات تجعلها في متناول الجميع.
يعتبر الكتاب المسيرة الشعرية لكل من فيدريكو غارثيا لوركا، ورافائيل ألبيرتي مسيرة متشابهة فنياً، فكلاهما بدأ شعره بطابع شعبي جديد، ثم تركه فيما بعد بسبب أزمة. ليتأثر بعد ذلك بالحركة السريالية. كما سمح لهما هذا التيار الجمالي بالتعبير بعنف وحرية عن اضطرابهما الحيوي، الذي لم تتسع له الأشكال القديمة. وبالنسبة لقدرهما فبدءاً من عام 1936، يعكسان رعشة الحرب الأهلية الإسبانية، والشرخ الذي سببته بالنسبة للأجيال التي عاشت هذه الحرب، اغتيل لوركا، وعاش ألبيرتي فترة طويلة في المنفى، وهو يحنُّ ويكتب الشعر المثقل بالموضوعات.
ظهرت حوالي العام 1936 مجموعة شعراء جيل ال 36 الذي أسس خط استمرار الشعر، وقدم هذا الجيل في بداياته الخصائص المشتركة كالإعجاب بالشاعر غارثيلاسو وإعادة تقدير العصر الكلاسيكي، والرؤية الحميمية والدينية للعالم، وكان الشاعر هير نانديز ينتمي لهذه المجموعة زمنياً فقط، إلا أن مسيرته الإبداعية كانت ملخصاً للمبادئ والأفكار الجمالية لمجموعة ال 27 الشعرية.
أما الرواية الإسبانية في عقد الخمسينات، فقد اتخذت اتجاهاً جديداً، وذلك عندما نُشرت رواية «خلية النحل» عام 1951 للكاتب خوسيه ثيلا، والتي كانت بمثابة نقلة نوعية تجاه القصة الموضوعية، حيث قام أدباء جيل منتصف القرن بتطوير واقعية اجتماعية في نزعتيها الأدبيتين: الموضوعية والواقعية النقدية، وذلك بغية هز المشاعر وشجب المظالم الاجتماعية، فيما كان المسرح في إسبانيا عام 1936 هو النشاط الرئيسي، أعاد بعث الأدب الدرامي منذ العام 1949 مع العرض الأول لمسرحية «قصة الدرج» للكاتب بويرو باييخو.
alraee67@gmail.com