ولا يحس بقيمة هذا التوجه والتوجيه القومي إلا من يعاني من غربة الفكرة العربية وتدجين القلم على مقادير الاغتراب والتشفي والهروب من المسؤولية إلى الادعاء الفارغ بطريقة إدانة المنطلق القومي وتحويله إلى ذريعة هي التي صدرّت كل المآسي المعاصرة في حياتنا العربية ومثلما صاغ الرئيس توجيهه القومي في مستوى الفكر فإنه غداً أو بعد غد سيصوغ كرامة الكادحين ولقمة عيش أبناء الوطن على ذات المستوى, هذه ميزة كسورية العربية الحديثة, هناك من يشرد من داخلها على الدوام ويذهب بعيداً مع العاصفة المفتعلة وعلى الدوام تتحرك الضمانة السياسية ممثلة بالقائد لتعيد الأمور إلى نصابها, والمسألة بأصلها ليست ذات طبيعة نظرية تجريدية وهي كذلك ليست مجرد إنجاز نشاط حميد ومحمود فحسب, إن المنطلق القومي هو صياغة قصوى متفاعلة لمفردات ومصطلحات أساسها التاريخ والتكوين وساحتها المصلحة والمصير , ومجالها الحيوي انبعاث بلا تردد في الثقافة والفكر وفي السياسة والمجتمع حتى لكأن المنطلق القومي هو المعادل للحياة العربية بكبوتها وانبعاثها ولا يعني ذلك أن نقف مصفقين نتقن رفع الشعارات ونتقن فن الانقلاب عليها وما تم إطلاقه في الآونة الأخيرة وما تمت الكتابة عنه في وسائل إعلامنا لا يقدم مدى واضحاً لطبيعة وأهمية النشاط الفكري ولا لخاصية تجديد المنطلق القومي على معيار النقد والمعاصرة ( ولا أقول الحداثة) وعلى كفاءة المنسوب الفكري في اتصاله بوضع الحياة العربية بكاملها في التجربة والاختبار, وحينما غابت المقدمات المنهجية صار المدى مفتوحاً بلا حدود أمام الطيران من موقع لآخر على غير ترتيب أو هدى وتحول الطرح القومي إلى مجرد تغريد وبكائيات وأحياناً إلى دريئة تسدد إليها كل سهام العصر المحملة بالإحباط والنكسة وإقصاء فاعلية الإنسان, وهذه حالة غريبة إذ كل أمم الأرض وشعوبها بمنطق الحضارة الذاتية لكل منها تستنهض المنطلق القومي, أعني تبعثه من الركام لتحيله إلى تراكم جدلي محسوس وملموس, لا مقدس ولا مطلق ولا نهائي في المنطلق القومي , ويتعادل بالتعاطي معه موقفان:
موقف التقديس الأصم والبحث عن الأصنام المعبودة, وموقف الشامت المتشفي الذي اكتشف فرصته وأشهر سيفه الصدئ على كل مؤشرات الحياة القومية للعرب, الموقفان معاً قفزا فوق القومية العربية وهي حقيقة حية متجددة ( ضعوا ألف خط تحت متجددة) ذاك ما أطلقه ذات يوم الرئيس الوالد حافظ الأسد, وحدنا اليوم نحن العرب باقتياد مترهل مهمل تمارسه النخب, وحدنا الذين بدأنا نفترس قيمنا ورموزنا بأسلوب المدح تارة والذم تارة أخرى, إن الفارق كبير ونوعي في منطق التجديد بين أن ندمر ونلغي بحجج واهية وبنبرات عاطفية تستهوي كل القلوب المكلومة وتستقطب عوامل الكارثة لتصبها ظلماً وافتعالاً في المنطلق القومي وعليه والغريب في الأمر بل المريب الذي يتحرك بطريقة التسلل ما بين موقف وآخر وموقع وآخر هو هذا التوجه الذي بدا وكأنه محط الإجماع النخبويه في هذه اللحظة ويتجلى الأمر في أحوال ثلاثة في الحال الأول يريدون فصل القومية عن العروبة وتحديد مسار بذاته لكل منهما حتى تتحول العروبة إلى أصلٍ ونسب فحسب وتتحول القومية إلى فكرة سياسية مستوردة , ويعلمون تماماً أن القومية العربية حينما أدخلت سلمان الفارسي في أفقها حتى لقد صار من آل البيت هي ذاتها التي أخرجت أبا لهب وقد تبت يداه, القومية صيغة العروبة في النسق القيمي والتاريخي والسياسي والعروبة حاضن القومية في المصدر الذي لا ينضب إلا حينما يختار العرب أن ينتحروا مجاناً على أعتاب العصر الهمجي وفي الحال الثاني هناك من يعود على بدء لجعل الفكرة القومية العربية مجرد صدى ميكانيكي لما وصل إليه الآخرون في الغرب بدءاً من الثورة الصناعية الأولى وهكذا فالقومية هنا لا وطن لها لأنها مجرد صفقة حضارية, وهكذا فلا داعي لتوطين القومية ما دامت بلا وطن وأعجب من أولئك الذين اندمجوا بهذه الفكرة حتى لكأنها يقين مطلق.
وفي الحال الثالث ندرك كنه ما يختلج داخل البعض من إدانة للتجربة السياسية القومية كما أطلقها البعث العربي الاشتراكي, ويسمون هذا الاتجاه بالقوموي وكأن البعث بتجربته السياسية على مدى ستين عاماً فأكثر لم يكن له دور سوى أن يجوف المنطلق القومي إلى أن يتحول الآن إلى مقصد سهل رخيص يمارس فيه البعض من النخبويين ذواتهم العائدة للتو من الرقاد والصحوة بعد أن أعياها الجمود وها هي تأتي ومعها الفكرة المريبة بأن البعث قدم النموذج الأسوأ للمنطلق القومي في الفكرة والتجربة السياسية والتربية ونظام الحكم, لم يفطن هؤلاء إلى أن المسيرة الكبرى تلازمها أخطاء صغرى وكبرى لكن الفارق كبير بين أن نزهق حاضنة من حواضن القومية , وبين أن نعيد النظر فيها ننقيها ونعدلها ننقدها ونحاصرها بالتقويم ونعلم تماماً أن النخبوية المعاصرة العربية انحازت إلى اتجاه واحد هو نسف التجربة والتخلص منها دفعة واحدة, مرة أخرى يقدم الرئيس بشار الأسد نموذج القائد القومي في زمن الغربة والضياع.