والإيغال بالقول (الذهني) لا القول الشعري فحسب.. فإن الثمن الموضوعي لأشكال التجريب الحداثي ومابعده سيتجلى في ارتباكات لاتضبط الفكر بالشعر أو تصالحه به, وقد تحيل - أيضاً - إلى مايدعوه النقاد عادة بتخارج الدلالات, دون التفريط بطبيعة الحال ببعض النصوص..في فرادتها وخصوصيتها واختلاف تجربتها وأدواتها.
لكن الشاعر في انحيازه لأوزان الخليل, ربما يؤكد شبابه ( الخليل ) لاشيخوخته, فالخليل بأوزانه وبحوره, يظل سادن القصيدة, لاسيما إذا انطلقت الذائقة والحس الفطري في فضاءات تعيد الاعتبار لجماليات التلقي بدرجاته وأصواته وطزاجة صوره في سياقها الخاص, دون الاتكاء سوى على ثراء الروح ودهشتها الأولى وبكورية تعبيرها.
ثمة لحظة تذكرّ بميراث القصيدة ( الشفوية ) وبامتيازها لأبعاد حسّية وجدانية, يستقيم معها القول بشعرية القلب, خصوصاً إذا ما امتحنه العشق, أو مسّه زمناً طويلاً.
يقول الفرنسيون (كل امرئ إذا مسّه الحب أمسى شاعراً ) تلك جدلية مثيرة, مازالت تنبئنا بأن العشق هو ضرب من الشعر, إن لم يكن هو الشعر بامتياز..وكيف لا, والشاعر السفير يوسف محمد المدفعي في ديوانه الشعري (عنود ), يذهب بنا إلى فضاءات عشق ملونة في قصائده الكلاسيكية المستوفية بحور الخليل, فالوافر, والرمل, والكامل ومجزوء الكامل مثلاً في نصوص مشبعة ليس بجوازات البحر فحسب ولوازمه كذلك, وإنما مشبعة بهويته واختياره, لخطاب العشق, الموضوعة الدائمة الحضور في قصائده, المتنوعة في أغراضها, لكأنه يتماهى مع أغراض الشاعر العربي القديم في الوصف والغزل ومديح المحبوبة, والتآسي لغيابها والاحتفاء بحضورها. كغياب (الوافر ) وكلّك نظر ( الكامل ), وأنت لي ( مجزوء الكامل ) وأصيلة ( الرمل ), حرف العين (الكامل ). ومايستلفت الانتباه حقاً في ذلك النسيج الشعري إيضاح شعرية القلب على المألوف والمعروف, لغاية شيوعه أو إشاعته بوصفه تراتيل وجدان تكثّف لحظات الإشراق التي يبوح بها خطاب العشق, ولسان حال الشاعر في خلجات قلبه وذاكرته وهو يقف بأرض الحلم وحيداً سوى من عشقه ليبوح, وبقصة ذلك العشق: ( قصتي ياقلب قد أعلنتها / لاتسل عني وعنها من تكون..).
أنا إن بحت بما في خافقي / جاوبت عيناي بالدمع الهتون.
ثمة مبالغة شعرية, لكنها عزاءالعاشق إذ يميّز أناه, ليستحضر موروثه الشعري- التاريخي في إعادة ثانية للشاعر الفارس كثنائية يكتنز بها تاريخ الأدب العربي: ( والسيف يعرفني ويعرف من أنا / والخيل تصهل من غيوم غباري / حرب البسوس وداحس سأعيدها / لو تعشقين..سواي..ذاك قراري).
والشاعر يدفع عن نفسه وهم الحب إذ إنه غالباً مايكون مستنبتاً من الظنون والأحلام والهواجس ربما ليعطي لمتلقيّه إحساساً واقعياً بأن من يعشقها أنثى من لحم ودم, كذلك هي العنود الأنثى الممكنة, المطلقة, المحلوم بلقائها, الموزعة على جغرافيا طليقة:
( لاتقولي كان وهماً حبنا في ظن شاعر ), ( قرب حي الصالحية / مرة ذات غروب /
أسرت قلبي صبية / ليس فيها من عيوب / هي ليلى العامرية / تارة وهي العروب
هي هيفاء غنيّة / وشيها وشي مريب / لاتكن أنت الضحيّة / واغنم الحسن الخصيب).
فهل هو مجرد قلم يجود به الشاعر - المدفعي - وحبر أزرق يشكله تضاريس للحبيبة?!
لكن الحبيبة. هي ذلك الضمير المستتر بإيقاع الربيع والذكرى والذاكرة, والغياب, والبحر. والعطر, والموسيقا, والحنين واللقاء, الضمير الذي ينفتح على شاعر عاشق فيفجر فيه المعاني:
» فتدّللي أنا عاشق ) / » أنا لست إلا شاعراً في كفه/ قلم يجود به وحبر أزرق).
وعنود إذن هي الاسم الدال على أنثى عربية مختلفة, حرّة مازالت كالحلم فهي إيحاءالكلمات ورهافتها وبساطتها, وهي نسيج التراكيب الجزلة الرشيقة, هي إذن لغة تفيض بشفافية شاعر مطبوع يجيدالعشق كشاعر ويجيد الشعر كعاشق, شاعر يرسم مناخات للغناء, إنها غنائية مكتفية بعذرية المفردات, واندفاعة القلب بأصالة محكيّه الشعري وغنائيته الباذخة, وصدقه الضروري, وعشقه الممكن ومكابدته الواضحة, في خصوصية قصيدته وثقافته. بيد أن ايقاعا آخر كالإيقاع الد اخلي , هو مفتتح رؤيته لشعر صاف بطابعه الإحيائي, ومقاصده الواضحة.
كإيقاع الشعور واللغة واقتصاد الخيال, وغير ذلك, فجسار ة العشق أنه الحياة..المضبوطة كقصيدة والمشتهاة كامرأة , ليس امتيازها أن تعشق فقط بل لأنها الحياة فبها قد يكتمل ديوان قلب الشاعر, ليختار أو ليستمر باختياره بأصالة ما يعرفه, وبمدى كنائيته للعالم, بصوته- علامته ليغبط بالجديد قارئا يتمتع فيحيا..
<
الكتاب: عنود - الكاتب: يوسف محمد المدفعي - الطبعة الأولى 2008 - إصدار خاص.