قد تبدو المقاربة فجّة ومسيئة للطّوابق قبل الفئران والقطط والمصائد النبيلة أو الدنيئة بقدرة المال وتوجّهاته وتوابعه ونوازعه.
إنّها على كل ّحال فكرة الإصرار على الكتابة لدى المبدع الذي لا يملك شيئا آخر يصرّ عليه ,وكذلك الكتابة حين تغوي أصحابها وتغدو قدرهم دون غيرهم من المدلّسين والمزوّرين.
جلس نابليون يوما حيث لا ينبغي له أن يجلس(في نظر مجالسيه) وانتبذ مكانا قصيّا وسط جمع من الحاشية وترك كرسيّه للفراغ والنّمائم فأشار إليه أحدهم بضرورة الجلوس حيث يجب الجلوس ,ردّ الامبراطور الذي لم يكن قصيرا إلاّ في قامته,ردّ بكلّ ما أوتي من دهاء وطرافة الكورسيكيين :(العرش حيث يجلس نابليون يا بني ويا أيّها القوم من معاشر الأغبياء والمتزلّفين).
نعم,التاج هو ما يبرق تحت التاج, كذلك العرش هو حتما ليس ذاك الذي تعرّشت تحته الأقدام بل شيء آخر تمسك به القبضة قبل أن تمسك بالصولجان,حينها تصبح الكتابة:إمساكا بها قبل الإمساك بالقلم.
قد تتعدّد الأمكنة أو تختلف وقد تطول المنابر أو تقصر وقد ترتفع الأصوات أو تزيد لكنّ الكلمة واحدة ,في رحم الظلمة كانت أم في رحم النور.
قد يتهافت كتّاب دون غيرهم على منبر إعلاميّ دون غيره وهم في ذلك يشبهون ركّابا يتزاحمون على الجلوس في المقاعد الأماميّة لحافلة ستوصل الجميع دون استثناء و نحو محطّة واحدة ولكنّ الأخيرة لا تعترف إلاّ بالأفضل.
أدمن بعض محترفي التهميش والإقصاء ثقافة التغييب والإسكات رغبة منهم في الاستحواذ على المنبر ولا يعلمون أنّ كلمات الكبار تسمع دون ميكروفونات بل وتصبح أكثر تأثيرا إن هم آزروا المقاعد الخلفيّة.
يعلم التاريخ البشري أنّ كتّابا كثيرين كتبوا بأسماء مستعارة -لسبب أو لآخر-وآخرين كتبوا بأسماء مستعارة - لسبب أو لآخر- ويعلم التاريخ أيضا أنّ فئة أخرى توقّفت عن الكتابة لأسباب و( لأخرى )ولكنّه احتفظ بأجمل ما كتب واعترف بأجمل ما لم يكتب وقدّر الأسباب ونسي الآخرين.
من أصابته لوثة الكتابة سوف يكتب, متى وأينما وكيفما شاء: على الجدران والطاولات والهواء ,سوف يكتب بقلم أو إصبع أو دون أصابع وسوف ينشر على صحيفة أوهاتف محمول أو حبل غسيل, وسوف يقرأ له قارىء أو أميّ أو جنيّ ....وسوف يقول له شخص ما:(أحسنت) و إن كان بقّالا في حارته أو امرأة تحبّه أو حتّى مرآة صباحيّة كشفته ذات صباح متلبّسا بالحلاقة والندم.
الكاتب الذي يتنقّل بين المنابر المختلفة كالطير الذي لا يستكين إلى شجرة واحدة, شرط أن لا ينسى جناحيه وطريقته في التغريد.
الكاتب الذي يثبت في مكانه طويلا يتحوّل مع الوقت إلى رسم تبهت ألوانه فيملّها الناس وما أدراك ماالملل....الملل إذاً هو روح تموت وتتفسّخ داخل جسد مازال حيّا ونضرا.
قد نتذكّر لون الأسطح والقرميد والأشجار والحقول ولكن من يتذكّر منّا لون الحرباء?,من يتذكّر لون البراري قبل أن يمرّ عليها الربيع بألوانه!
من يتذكّر أسماء الأباطرة والملوك في عهد دانتي وشيلر وراسين وغوته?!.
يخيّل للمرء أنّ الصخرة التي يدفعها سيزيف كلّ صباح هي حصان امرىء القيس الذي حطّه السيل من عل وهي كناية عن الكاتب الذي يعي جيّدا وهم القمّة ومع ذلك يسعى إليها ,أمّا سيزيف فهو هوس الكتابة وغليان الحبر في الأقلام.
هناك كتّاب دون منابر وهناك منابر دون كتّاب,هذا هو حال الكتابة في عالمنا العربي وسيظل هذا الخلل قائما ما أقامت بيننا الضغائن والمحسوبيات الضيّقة بل الأمر جزء من جدليّة المناسب وغير المناسب التي وقفنا أمامها كمعضلة دون حلول.
الغريب في الأمر أنّ (كتّابا) يشتكون من ضيق الهامش واتّساع التهميش ضدّ أهل المهنة يمارسون أشنع الأساليب ويأتون بمثل ما يدّعون مقارعته ومواجهته.
لقد كان الجاحظ دقيقا حين فرّق بين الكتّاب والكتبة ووصف الكتابة بالصنعة أو المهنة وليس الامتهان لأنّه ارتهان أمّا الهواية فغواية وما أجمل الغواية حين تمسي عشقا مزمنا وعصيّا على المنابر والتصنيف.
hakemmarzoky@yahoo.fr