عبد الله الشيتي. زميلنا الراحل قبل سنوات, كان يحفظ من الحكايا الضاحكة ما كان يجعلنا ننقلب عن كراسينا,
فيما كان في الواقع كاتباً حزيناً في الداخل ومجاملاً مع الناس, ولم يعرف دخيلته المتوترة إلا القلائل, وروى فيما روى أن وزيراً للصحة زار مستشفى للأمراض العقلية,وسأل عن قاعة المجانين الخطرين, وعندما أخذوه إليها. لاحظ شاباً يندب ويشد شعره ويلطم خديه, يصرخ: هيفاء.. هيفاء.. هيفاء.. فسأل عنه فقالوا: هذا جنّ من العشق يا سيدي, وهيفاء هي الحبيبة التي رفضت الزواج به.. فمضى الوزير ورفاقه بضعة أمتار, ليجد شاباً آخر يلطم خديه ويشد شعره ويمزق ملابسه وينادي على هيفاء نفسها, وهنا تعجب الوزير وسأل عن مشكلته.. فقال له الطبيب المعالج هذا تقدم لخطبتها, وبعد فترة جاء هيفاء أمير خليجي فتخلت عنه.. وهكذا جُن الرجل.. ولم يمض عام حتى طلق الأمير هيفاء فعادت إلى بلدها لتسأل عن العاشق القديم فوجدته مجنوناً لا يصلح لها.. مشى الوزير ومشى الناس معه إلى آخر صالة المجانين الخطرين ليجد رجلاً يمزق ملابسه ويلطم خديه ويشد شعره وهو يصرخ هيفاء: .. هيفاء.. فتعجب الوزير مستغرباً: وهذا?. فرد عليه الطبيب: هذا الذي تزوج بها.. فاستعاذ الوزير من الشيطان ومن النساء وهو يردد: أهذا ما يفعله العشق بالناس.. وتعودنا عليه أنه أجمل ما في الحياة!!
وبالعودة إلى القصص القديمة, والتراث, وحكمة الشيوخ نجد سقراط يقول: العشق جنون.
سأل الخليفة المأمون ثمامة بن أشرس المعتزلي: ما و العشق? قال: هو جليس ممتع, وأليف مؤنس, وصاحب ملك, مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائرة, ملك الابدان وأرواحها والقلوب وخواطرها, والعيون ونواظرها والعقول وآرائها.
لكن مراتب العشق عند ابن الجوزية: أوله الميل إلى المحبوب ثم يستحكم الهوى فيصير مودة. ثم تزيد بالمؤانسة, ثم الخلّة, ثم الصبابة, وهي رقة الشوق تولدها الألفة ويبعثها الاشفاق, ويهيجها الذكر, ثم تصير عشقاً وهو أعلى ضرباً.
ومراتب العشق: اللوعة, حرقة القلب, العلاقة, الحب الملازم للقلب. والجوى: الهوى الباطن. واللاعج: الهوى المحرق. والشغف: أن يبلغ الحب شغاف القلب وهو جلد دونه. والتيتم: أن يستعبده الهوى, والتبتل: أن يسقمه الهوى (أي يمرضه) والتدليه: ذهاب العقل من الهوى. ومنه مدّله.
أما ابن القيم فقد شرح لفظة الحب بقوله: العشق فرط الحب. وفي المحكم لابن سيده: العشق عجب الحب بالمحبوب.. أما الشوق فهو حرقة المحبة والتهاب نارها في قلب المحب, أي قد لزمه الحب.. أما الهيام فأشد من العطش, وهو كالجنون من العشق, إذ هو داء يأخذ الإبل فتهيم لا ترعى. فيقال: ناقة هيماء.. وأما الوله فهو ذهاب العقل والتحيّر من شدة الوجد ومن معاني المحبة الجنون, واستشهد ابن القيم بهذين البيتين:
قالت جُننت بمن تهوى فقلت لها
العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين
والحب, أجمل ما نجده في الشعر الذي يذوب رقة ويسيل عذوبة, ولا تكاد تخلو صفحة من كتاب (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) من أبيات شعرية في هذا المعنى مثل هذا البيت:
ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها
وأنت وحيد مفرد غير عاشق
ومثل هذا البيت الآخر:
هل العيش إلا أن تروح وتقتدي
وأنت بكأس العشق والحب نشوان
ويشير هذا الكتاب إلى الحب, ويشتمل على فصول كثيرة تبين مكانته في الحياة, فمن لم يذق طعم الحب لم يذق طعم العيش. ولا لطافة الحب ولذته ما تمناه المتمنون, والعيش مباح مما يؤجر عليه العاشق, وأن أشد الناس حباً أعظمهم أجراً. وعند ابن القيم أن أول حب في الدنيا هو حب آدم لحواء. إذ كان شديد المحبة لها, ما جعل الحب سنة في ولده بين الزوجين إلى يوم القيامة.
وإن العشق يصفي العقل ويذهب الهم ويبعث على حسن اللباس وطيب المطعم. ومكارم الأخلاق, يعلي الهمة, ويحمل على طيب الرائحة وكرم العشرة وحفظ الأدب والمروءة, وهو ميزان العقل جلاء الذهن, فهو, إذاً خلق الكرام.
ويروي ابن قيم الجوزي قصة طريفة.
قال القلب للعين:
أنت التي سقتني إلى موارد الهلكات, وأوقعتني في الحسرات, بمتابعتك اللحظات, ونزّهتِ طرفك في تلك الرياض, وطلبت الشّفاء من الحدق المراض, ومصدق قولي: هذان البيتان, قال الشاعر:
نظر العيون هو الذي
جعل الهلال إلى الفؤاد سبيلا
ما زالت اللحظات تغزو قلبه
حتى يشحّط بينهن قتيلا
قالت العين للقلب:
- ظلمتني أولاً وأخيراً, وبؤت بإثمي باطناً وظاهراً, وما أنا إلا رسولك الداعي إليك. ورائدك الدال عليك? فأنت الملك المطاع ونحن الجنود والأتباع. أركبتني في حاجتك خيل البريد, ثم أقبلت عليّ بالتهديد والوعيد. لقد أرسلتني لصيد قد نصبت لك حباله وأشراكه, واستدارت حولك فخاخه وشباكه, فغدوت أسيراً, بعد أن كنت أميراً, وأصبحت مملوكاً بعد ما كنت مليكاً.
فلما سمعت الكبد تحاور العين والقلب قالت:
- أنتما على هلاكي تساعدتما, وعلى قتلي تعاونتما, أنا أتولى الحكم بينكما, أنتما في البلية شريكا عنان, كما أنكما اللذة والمسرة فرسا رهان, فالعين تلتذّ والقلب يتمنى ويشتهي. فإن لم تدرككما عناية مقلّب القلوب والأبصار وإلا فمالك من قرة ولا للقلب من قرار).
وفي الحسن والجمال نظرية خاصة لابن قيم الجوزية: فالجمال عنده ليس فقط حسياً وإنما هو ظاهر وباطن. فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة. وهذا الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من الصفات. وأما الجمال الظاهر فزينة خصّ الله بها بعض الصور عن بعض, وهو الصوت الحسن والصورة الحسنة, ويكمن هذا الجمال الحسي خاصة في تناسب الخلقة واعتدالها واستوائها. والنساء الجميلات, الرائعات الجمال اللواتي خلقهن الله في صورة مثلى من الجمال ويصورهن مثل الحور العين اللائي وصفهن الله تعالى في القرآن الكريم والرسول في السنة النبوية الشريفة. فالنساء الجميلات الباهرات الجمال يصورهن ابن قيم الجوزية حوراً عيناً أي ضخام العيون, صفاؤهن صفاء الدّر الذي في الأصداف والذي لم تمسه الأيدي وهن كواعب أترابا, وتوسع ابن القيم في وصفهن في قصيدته الشهيرة المسماة (بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية).
حمر الخدود ثغورهن لآلئ
سود العيون فواتر الأجفان
والبرق يبدو حين يبسم ثغرها
فيضيء سقف القصر بالجدران
ريانة الأعطاف من ماء الشباب
فغصنها بالماء ذو جريان
لما جرى ماء النعيم بغصنها
حمل الثمار كثيرة الألوان
فالورد والتفاح والرمان في
غصن تعالى غارس البستان
وديوان الصبابة لابن أبي حجلة التلمساني هو أيضاً لحال الحب والمحبين وهو أيضاً كتاب هوى وأخبار من قتلهم الهوى, وسار بهم الحب في كل مذهب, وتركهم الهوى كهشيم, وأصبحوا من علة الجوى على قسمين فمنهم من قضى نحبه ومنهم ينتظر:
كل يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا
أو قوله:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كل منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
ويستشهد ابن أبي حجلة ببيت للمتنبي:
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
كما يستشهد بهذين البيتين:
ومن عجب أني أحن إليهم
وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
ثم يقول هذا البيت:
خيالك في عيني وذكرك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب
أما كتاب (مصارع العشاق) فقد حفل بالعشق شعراً ونثراً
وفيه مثل هذه الأبيات الغنائية:
يا من رمى قلبي فلم يخطه
أصميتني قتلاً ولم أدر
ساعدك الحب على مقتلي
كلاكما قد دان بالغدر
وابن حزم أحب منذ كان طفلاً وهذه أبيات من تجاربه:
دنا أملي حتى مددت لأخذه
يداً فانثنى نحو المجرة راحلا
فأصبحت لا أرجو وقد كنت موقناً
وأضحى مع الشعري وقد كان حاصلا
وقد كنت محسوداً فأصبحت حاسداً
وقد كنت مأمولاً فأصبحت آملاً
كذا الدهر في كراته وانتقاله
فلا يأمنن الدهر من كان عاقلا
هكذا الحب
وكما قلت في (أوتار) سابقة
وللحب بقية, بقية تطول لأنها الحياة