بقي الفريق مقتنعا بأن تجربة بلاده ( كما اغلب تجارب بلدان الاتحاد الاوروبي ) المعتمدة اساساً على وجود مؤسسة قوية واحدة لادارة الاراضي, لا تصلح لنا... ? ربما لتقديره بأن الوزارة كجهة رفيعة اقدر من المؤسسة على قيادة الجهات المتعددة المتعاملة مع الاراضي, وعدم وجود عقبة احداث وزارة جديدة في سورية: أليس لديكم وزارة دولة لشؤون الهلال الاحمر?(تساءل احد اعضاء الفريق) لكن المسودة اقترحت سناريوهات احتمالات اخرى, مثل اضافة لجنة لادارة الارض, تتبع المجلس الأعلى للتخطيط, تنسق بين الجهات المساحية الثلاث.. هكذا تفيض الخيارات امام الجهات المسؤولة.. ربما لكي لا نتوه, في سنوات اخرى, بحثاً عن حل, لا يمكن تأجيله ولا العثور عليه.. ?!
في ورشة العمل التي نظمها الفريق السويدي يوم 6/12/,2007 بحضور ما يقرب من ثمانين اختصاصياً سوريا, يمثلون الجهات المعنية بإحداث نظام لادارة الأراضي في سورية, شكلت مجموعة من اللجان المصغرة, لإبداء الرأي في توجهات الدراسة السويدية .
اختصت احدى هذه اللجان بالمسألة التنظيمية (المؤسساتية). وهي النقطة المركزية التي توسع الحوار حولها بين الفريق السويدي والمختصين السوريين, بسبب اهميتها الجوهرية في المرحلة الراهنة من واقع إدارة الأراضي في سورية وطموحات اعادة تشكيلها. طرح الفريق السويدي رؤيته للمسألة, شارحاً ضرورات تأسيس وزارة (أو جسم سياسي ما), يدير الجهات الثلاث المشاركة (بحسب الفريق) في هذا التنظيم: المديرية العامة للمصالح العقارية والمؤسسة العامة للمساحة وهيئة الاستشعار عن بعد...
ناقشت اللجنة الافكار السويدية وكذلك مقترحات الفنيين السوريين التي تبلورت, خلال الحوارات المحلية المتواصلة, منذ اكثر من عقدين, ثم قدمت, امام ورشة العمل, خلاصة ما توصلت إليه: اقتراح إحياء مسودة القانون الذي عملت عليه اللجنة( ترأسها نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الخدمات عام 2003) والقاضي بإحداث هيئة مساحية سورية, تكون نواتها: المديرية العامة للمصالح العقارية على ان تتبع وزارة الادارة المحلية والبيئة لم يعرض الفريق السويدي في تقريره بدقة ماحدث في ورشة العمل بل تجاهله بطريقة مواربة ومتعالية ... متخطياً وعود اللقاء الأول(23 ايار 2007) بتقديم حلول تشاركية مع الجانب السوري .. لا أنوي تكرار ما ذكرته في العدد 13507 من جريدة الثورة (9/1/2008) . لقد اثارت مسودة التقرير, لدي كما لدى زملاء آخرين, تساؤلات وانطباعات, أبعد, من تفاصيل الحوارات مع الفريق السويدي, او تقريره النهائي..
1- صيغ أنضج للتعاون مع الدول الأخرى ..
كيف نقوم خبراتنا التاريخية في التعاون, متعدد الاغراض مع الجهات الأجنبية, في ميادين الاقتصاد والتجارة والتقانة والاعمال الانشائية..? اضافة الى بعض الجوانب الادارية والتنظيمية .. في السنوات الاخيرة? ماهو اسهامها الحقيقي في تأسيس توجهاتنا الوطنية?
هل من الصواب تكليف فريق أجنبي (حتى ولو كان منتمياً الى دولة عريقة ومتطورة كالسويد, وبمنحة من حكومتها ) وضع دراسة جدوى لتنظيم وتطوير إدارة الأراضي في بلدنا, هكذا بالجملة وقبله: يضع فريق اوروبي, عام ,2005 دراسة شبيهة, على نحو ما, لصالح وزارة الإدارة المحلية?
طالبنا دائماً, بالتعرف على الخبرات الدولية المتطورة, لنتابع رحلتنا, من حيث وصل الآخرون. ولكن كيف نوظف هذه الخبرات? هل تقدم لنا على طريقة المفتاح باليد أوكما اقترح مفكر عربي مؤخراً نتبادل المصالح والخبرات بالقطعة ليس حكماً ان نفلت من أيدينا إطار وهدف ومحتوى وحدود تعاوننا مع أي جهة اجنبية اقتصادية أو هندسية أو تقنية لاخشية تدخل المفتاح باليد الآخرين في شؤوننا... بل ليبقى تعيين اتجاهات تطور بنيتنا الادارية, في مختلف المجالات, في صلب مهام هيئاتنا ومؤسساتنا الوطنية.
عندما تشاركنا مع الاتحاد السوفييتي, في اكبر تجربة, من حجمها, هندسياً واقتصادياً:بناء سد الفرات, ومن بعده: تنفيذ مشاريع استصلاح الاراضي, كانت شؤون تنظيم الإدارة من اختصاص الجانب السوري حصراً. لم يرسم لنا احد كيفية تشكيل الهيئة العليا لمشروع الفرات والمؤسسات التابعة لها والوزارة المختصة, فيما بعد, وانظمتها الادارية والمالية والتعاقدية.
سبق وساهمت منذ الستينات في نشاطات او حوارات مع جهات اجنبية متنوعة ,شرقية وغربية , لم يسبق ان شعرت بأن الطرف الآخر يحاول إملاء رؤيته علينا, فنضطر لتذكيره بأننا: اهل مكة!( كما فعل زميلنا الدكتور نبيل الأشرف, في ورشة العمل ).
اعترف بشعوري ممزوجاً بالخجل والغضب, وانا اشاهدهم, يرسمون لنا (شجرات) صعوباتنا التنموية والاقتصادية والمالية.. (وفق قواعد البنك الدولي) . اتوقع ان دورهم لا يجوز أن يتضخم ليدخل في اكتشاف وتعيين حجم وطبيعة العلاقات التي تواجهنا بدل أن يتمحور اسهامهم, معنا, في تنفيذ خياراتنا العلاجية, وبالقطعة .
ينبغي الوثوق( رغم عثراتنا) اننا لسنا دولة استقلت منذ سنوات قليلة, تحبو خطواتها الاولى على طريق بناء خبراتها وكوادرها الهندسية المؤهلة( عمر نظامنا المساحي العقاري الحالي تجاوز الثمانين عاماً)..
عندما لانقدر حجم وطبيعة أدوارنا وامكاناتنا, على هذا المستوى, فمن المتوقع ان لا يأخذنا الآخرون على محمل الجد. يتعمق لديهم احساس التفوق والغطرسة, وتنمو لدينا اوهام محبطة بلهاء!
2- لماذا ناشدنا الفريق السويدي تأسيس دراسته فوق ما توصلنا إليه, محلياً?
مع معرفتنا النواقص الجدية التي تعتري عمل مؤسساتنا المساحية الوطنية, فإنه لا يمكننا قبول التوصيف التعسفي للخدمات التي تقدمها, بأنها (ليست على علاقة مع ما هو ضروري لملاقاة متطلبات المجتمع(( الصفحة 72 من التقرير)..
ولا نعده تعبيراً مقبولاً( لا من الناحية الموضوعية ولا من حيث احترام خبرة الشريك), ان يقال في وصف جهودنا المحلية لتجاوز الخلل في التنظيم والاداء المساحيين ما يلي ( الصفحة 71).. (ان كل المحاولات السابقة ( أي محاولاتنا الوطنية) لم تستند الى دراسة شاملة للحالة القائمة), قبل ان يستفيض في شرح شمولية الدراسة السويدية.. التي اوجبت اقتراح تأسيس وزارة إدارة الاراضي, بينما ادى (عدم تكامل) دراساتنا المحلية الى التمسك بخيار مؤسسة مساحية قوية ?!
يعرف المتابعون ما جرى في السنوات الاخيرة, ان عدم الوصول الى الهيكلية المنشودة للتنظيم المساحي ليس برهاناً على عدم شمولية او عمق دراساتنا, ينبغي البحث عن اسبابه في اماكن وشروط اخرى ..
لقد تابعنا ( في نقابة المهندسين, كما في الجهات الحكومية المختصة), من مواقع ومفاهيم مختلفة, كيفية تطوير التنظيم المساحي السوري, وقدمنا مقترحات جادة للحكومة, وان لم تكن متطابقة, حول اعادة هيكلة هذا التنظيم, ليلبي الاحتياجات والامكانات التقنية الراهنة. يضم ارشيف رئاسة مجلس الوزراء والعديد من الوزارات والمؤسسات ونقابة المهندسين وكذلك ارشيف الصحافة المحلية, الكثير من المتابعات التفصيلية لهذا الموضوع الهام, انفقت في انجازها ألوف ساعات العمل الجاد ( نضيف: التطوعي).
نتذكر منتصف الثمانينات, عندما بدأنا في وقت واحد, تجربتين هامتين ومتشابكتين: احداها للتنسيق بين الجهات المساحية المحلية, بإشراف وزاري مباشر( لجنة عام 1985) والثانية: احداث المؤسسة العامة للمساحة( عام 1986).كانت اسس رؤيتنا للحل, تنضج من خلال الدروس المستخلصة, من تطبيق هاتين التجربتين, معاً:
اولاً- ليس التنسيق بين الجهات الحكومية بديلاً عن تنظيم مساحي موحد ومتماسك( اتسع مفهومه الآن, ليغدو تنظيماً لادارة الاراضي).
ثانيا- لم تستطع المؤسسة العامة للمساحة ( رغم خبراتها الكبيرة وتاريخها العريق) ان تغدو ذلك التنظيم, لأن الجوانب العقارية استثنت من صلاحياتها.
ادركنا انه لن تنشأ مؤسسة مساحية وطنية خارج القاعدة الاساسية للعمل المساحي: الشؤون العقارية!
(تاريخنا , تميز تطور العلوم المساحية في تلك البلدان, التي تطلب الامر فيها تعيين حدود ملكيات المواطنين, ثم اعادة تعيينها ,بفعل فيضان الانهر, الذي يمحو الحدود... كما كان يحصل في وادي النيل, منذ زمن الفراعنة).
من غير المجدي القفز فوق الخبرة الوطنية التي صاغت بالتدريج , اسس الحل المطلوب . كانت تحفره , يوماً بيوم, معاناتنا الحقيقي مع اساس جيوديزي مترهل ومخططات مساحية ( عقارية ) ضعيفة الدقة...
ترافقت تلك الخبرة, مع اطلاعنا على التجارب العالمية, وادراكنا ان ليس ثمة الكثير من الخصوصية السورية المساحية( من منظور تاريخي) , فأغلب البلدان التي كان لديها انظمة مساحية عقارية قديمة, اضطرت الى تحديثها عبر التأهيل والتطوير التنظيمي المتواصل..
بعض الخصوصية السورية هو في محاولة اختبار طويل المدى لحلول, انتهت صلاحيتها..صعوبتنا الاساسية كانت في عجزنا نحن الفنيون عن توحيد نظرتنا وبالتالي مواقف مؤسساتنا تجاه حلول جديدة, تزيل الفجوة الهندسية والتنظيمية بين ما لدينا وما لدى الآخرين..
3- رؤية متفردة ومتصلبة ? أم حلّ مبني على التحاور مع الجانب السوري?
عندما قدم السويدون عرضهم الاول, احتوى معلومات عن تنظيم إدارة الأراضي لديهم وكيفية قيادته على نحو شامل من قبل المؤسسة المساحية السويدية (SWEDESURVEY ) . لقد نمت هذه المؤسسة , عبر التطور الطبيعي للجهة الرسمية التي كانت مسؤولة عندهم تاريخياً عن مسح وتسجيل العقارات... كما هو الحال في اغلب بلدان العالم المتطورة يومها تملكتنا ثقة غامرة هذا بالضبط ما ندعو لاعتماده, متوقعون ان جوهر دراستهم في هذا الجانب التنظيمي , سيعكس تجربتهم الغنية فعلاً متفهمون ما ندعو له منذ سنوات ضرورة وجود هيئة مساحية تنمو في رحم المديرية العامة للمصالح العقارية . عندما تتوفر القناعة, لدى الحكومة ( او الإرادة السياسية, كما يسميها التقرير السويدي, عن حق) بأن ثمة ما ينبغي تحديثه في المجال العقاري والطبوغرافي وما يرتبط بهما, فإن الاجراء الهيكلي سيبدأ من اعادة تأهيل المديرية العامة للمصالح العقارية, تنظيمياً وهندسياً وتشريعياً . فقط خطوة كهذه ستكون اساساً صلباً لنشوء نظام إدارة أراض قادر على التطور.. لم يستطع الفريق السويدي اقناعنا بأن لسورية خصوصية نادرة لدرجة الاستحالة تستوجب انشاء وزارة لادارة الاراضي, مضيفة حلقة بروقراطية تجترّ عملياً تجارب التنسيق المساحي التي خبرناها على مستويات مختلفة دون جدوى ملموسة..
4- كيف ولدت فكرة الدراسة التي نفذها الفريق السويدي?
هل كان الاسلوب الذي انتهجه الفريق السويدي وهو يعد دراسته حتمياً? ما هي مسؤوليتنا المحلية, فيما يحصل? ربما يساعد في فهم مسار هذه التجربة العودة الى حكاية بدايتها:
يقول التقرير الأولي للفريق ان الاقتراح قدمه مدير عام الهيئة العامة للاستشعار عن بعد, عام ,2004ثم نضج بصيغة اتفاق بين وكالة التعاون الدولي السويدي (SIDA ) ووزارة الاتصالات والتقانة.
الجهتان السوريتان المذكورتان لا تنتسبان الى الجسم او الهم المساحي الاساسي في بلدنا
هل كانت المديرية العامة للمصالح العقارية ( ومن ورائها: وزارة الزراعة) على علم باتفاق الدراسة, مسبقاً? هل شاركت به وزارة الإدارة المحلية والبيئة? أم هل تم بتوجيه رئاسة مجلس الوزراء? ربما هنا يكمن بعض من مشكلتنا الادارية: ليس أننا لا نضع الرجل المناسب في مكانه وحسب ,بل ان مؤسساتنا الحكومية تعمل احياناً خارج نطاقاتها وتتمدد على حساب مؤسسات اخرى .. يذكرني الامر بمحاولة الهيئة العامة للاستشعار عن بعد, عام 2001 تشجيع الجهات الحكومية المسؤولة, على التعاقد مع شركة سويدية( بلوم) لانتاج مخطط طبوغرافي تفصيلي لمدينة دمشق. كانت الحجة صادمة بخشونتها عدم كفاءة الجهات المساحية السورية لتنفيذ عمل بهذا المستوى. أما مبرر تسويغها هي( أي الهيئة العامة للاستشعار عن بعد) لصيغة الاتفاق مع بلوم السويدية فهو: الخبرات المكتسبة للهيئة في مجال التعاون الدولي!!
منذ مدة,اصبح المخطط بين أيدي مجلس محافظة مدينة دمشق أنجزته المؤسسة العامة للمساحة لايسيء لأحد , تذكيرنا بأن الجهة الاساسية التي دافعت حينها عن حق مؤسساتنا الوطنية وخبراتنا المحلية في تنفيذ مهامها الانتاجية , هي: نقابة المهندسين!
يسألني بعض الزملاء مشككين بجدوى اهتمامي بهذا الموضوع: ماذا تتوقع انه حاصل? سيدخل التقرير الاخير الادراج كغيره, وينسى..
نفذ الفريق السويدي مهمته المدعومة من وكالة التعاون الدولي السويدية. ولا ريب ان في تقريره الكثير مما يستفاد منه, خصوصاً في بعض جوانبه التقنية..
يبقى أن نتعلم, نحن , كيف نثمر تعاوننا مع الآخرين دون تهميش لتجربتنا الوطنية..