وليس الآن مجال المقارنة، لكنّ من الأفكار المهمّة حول شخصيّة القصة القصيرة ما طَرَحه خوان رامون ريبييرو حين قال: (يجب أن تنطلق القصّة من حالات تعيش فيها الشخصيّة أو الشخصيّات صراعاً يُرغمها على اتخاذ قرارٍ يُحدِّدُ مصيرها)، وهو قولٌ ينطبقُ أيضاً على الشخصيّة الروائيّة.
ويقولُ هوراثيو كيروغا في واحدة من نصائِحِهِ:
(خذ بيد شخصياتك، قُدها بثبات حتى النهاية، دون أن تنظر إلى شيء آخر غير الطريق الذي رسمتَهُ لها. لا تشغل نفسك بمشاهدةِ ما لا تستطيعُ شخصياتُك رؤيتَه أو ما لا يهمّها أن تراه، القصّةُ روايةٌ مطهّرةٌ من الحشو، اعتبر هذا الأمر حقيقةً مطلقةً، وإن لم يكن كذلك)، ويرى إنريكي أندرسون إمبرت (إن القصّة تسردُ أمراً حدثَ لفردٍ ما. فإذا لم تكن أمام الشخصيّة مجموعة من الإمكانيات للعمل تدفعها للاختيار فلا توجد قِصّة. فالطريق الذي تختارُهُ الشخصيّة ينبئُ عن طبيعتها. ويمكن قول ذلك بطريقة أخرى وهي أن الراوي وضع الشخصيّة في هذا الطريق لمزيد من تحديد ملامِحها، ومن المستحسن أن يكونَ هناكَ انسجام بينَ الشخصيّة والحدث، وبينَ فن رسم الملامح وفن بناء المضمون، فالحدث يصنعُ الحبكة ويرسم ملامح الشخصيّة)، ولا يخفى على كُتّاب القصّة ونقّادِها أنّ من المهم جداً وضع ملامح لشخصيات العمل، ذلك أن تلك الملامح تخدِمُ القيم السرديّة للقصّة وقد تبدو أكثر أهميّة من الحبكة نفسها، ولا سيّما عندما يركز الراوي اهتمامه على الملامح النفسيّة للشخصيّة.
إن الشخصيّة، وهي الفاعل للحدثِ في القصّة، إنما ترسُمُ في حالات كثيرة ملاِمَحها بنفسها من خلال ما يصدر عنها؛ كأن نعرفَها من خلالِ أقوالها وأفعالها، ويمكن دراستُها أحياناً كأنها (وعي قصصي؛ ولحظتها تكتسبُ الأحداثُ الصادرة عنها حيويّةً، كما تساعد في تحديد رؤيتها للعالم)، وتصبحُ لحظتها مصدرَ القصّة بكل معنى الكلمة.
لكنَّ علينا - كقرّاء - في الأحوال جميعها أن ندرك أنّ الكاتب نفسه إنما يُبدِعُ الشخصيّة كما يحلو له، وهو يخضع هذهِ الشخصيّة في مخبرهِ الخاص لتجارب كثيرة، ومن الطبيعي أن يعرفَ عنها كل شيء، وإن كان يتصنّع أحياناً عكس ذلك، ويَجعل ساردَه يختارُ زوايا رؤية تقلّلُ من قدرتِهِ على الإحاطة بالشخصيّة، بل لعلَّ قصصاً كثيرة نرى فيها الراوي لا يعرفُ إلّا القليل عن الشخصيّة، أو لا يعرفها إطلاقاً وعندها يوهمنا نحن القراء أننا نعرفها أكثرَ منه، لكن الحقيقة التي لا تقبل الشك تتمثّل في أن الكاتب لا يترُكنا نعرفُ عن شخصيّتِهِ المُتخَيَّلةِ إلا ما يرغبُ بهِ هو ولغاياتِهِ الفنيّة والفكريّة، حتى ولو كانَ يتعامل مع شخصيّة تاريخيّة معروفة، ذلك أنّه يفعل فعلَهُ هذا متمتَّعاً بالحريّة الفنيّة نفسها التي يملكها عندما يبتكر شخصيّة خياليّة خاصة به، أما مسألة أن يمتثل للوقائع التاريخيّة المعروفة التي عاشتها تلك الشخصيّة على طريقةِ المؤرخيّن فهذهِ حالة شخصيّة تماماً أو قرارٌ شخصيٌّ يتخذُهُ، وليسَ قانوناً فنيّاً. وثمّةَ (بعض الكتّاب الذين يعنون بالحقيقة وعندئذٍ نفهم قصصهم بنفس الافتراضات المنطقيّة والتعميمات التي هي محور من محاور علم التاريخ وهناك كتّاب آخرون يرفضون هذهِ النمطيّة ويدخلون من باب الخيال والمجاز منتزعين شخصياتهم من أطرها التاريخيّة لجعلها تتحاور خارج التاريخ).
أما بشأن ما نقرأهُ أحياناً لبعض القصاصين والروائيين حول استقلال شخصيّة من شخصياتِهم وقدرتِها على التمرّد على إرادة الراوي، فإن هذا محض زهوٍ أو تصنّع! إنّهُ تمرّدٌ وهمي؛ فإذا ما بدت هذهِ الشخصيّة أو تلك مستقلّة ومتمرّدة فإنما يسمَحُ لها الراوي نفسه (ومن خلفِهِ المؤلّف) بأن تفعل ذلك.