من الصفقة التي سحب بلاده منها؟ كما نتساءل أيضا إن كان يخال ومستشاروه أن إيران ستنصاع بالقوة إلى المطالب المفروضة عليها أو دفع نظامها للتنازل عن السلطة؟ وهل يهدف من خلال جهوده ومساعيه إلى تغيير الحكومة عبر اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية؟ نعتقد أن كافة الأسئلة التي وردت أنفا لا تجد إجابات شافية لدى ترامب ومستشاريه وربما لا يحدث أي مما ذكر فيها.
وعلى سبيل المثال، فإن انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة «الاتفاق النووي» كان تنفيذاً لأحد الوعود الرئيسة التي قطعها إبان حملته الانتخابية.
لكن تكمن المشكلة في كونه ومستشاريه ليس لديهم تصور عما يمكن حدوثه في المستقبل بعد الخروج من الصفقة.
وتتمثل أحد الآراء القليلة الثابتة للرئيس ترامب في صناعة السياسة بتركيزه الحصول على موافقة كتلة المؤيدين الأساسية. وبالنظر إلى حملته الانتخابية التي أعلن خلالها رفضه لتورط أميركا في صراعات خارجية، فمن المفترض أن ناخبيه يرفضون شن الولايات المتحدة حرباً أخرى في الشرق الأوسط، لأن المواجهة العسكرية مع إيران لن تفضي إلا إلى المزيد من الخسائر، وخاصة أن فرص تحقيق الفوز بها أقل مقارنة مع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق.
لذلك من المرجح أن نشهد ترامب يعمد إلى تجنب الدخول في حرب غير مضمونة النتائج، ويكتفي بممارسة الضغوط القصوى على طهران.
ولكن المعضلة تكمن في البيئة السياسية لمنطقة الخليج، فالفاصل بين الخيارين ليس بالواضح، إذ أظهرت التجارب السابقة أن استخدام الضغوط القصوى غالباً ما يهيئ الظروف والأجواء لمواجهة عسكرية.
وفي هذا السياق، يدعي ترامب، خلافاً لمستشار الأمن القومي المتشدد جون بولتون، بأن تغيير النظام الإيراني لا يعد أحد أهدافه السياسية.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه يتصرف وكأن المحافظين الجدد الذين دفعوا الرئيس السابق للولايات المتحدة جورج بوش الابن لشن حرب على العراق هم ذاتهم من يدعوه لشن حرب على طهران.
ولا ريب بأن هذا الوضع محفوف بالمخاطر ولاسيما في ضوء تقلص مجال مناورة صناع السياسة الأميركية في الشرق الأوسط على نحو ملحوظ منذ عام 2003.
فالموقف الاستراتيجي الإيراني في الوقت الراهن أكثر قوة عما كان عليه في السابق.
إذ ستتلقى إيران الدعم الدبلوماسي والمادي من روسيا والصين، وبذلك فسيكون من الصعوبة بمكان عزلها في حال اللجوء إلى التصعيد العسكري ضدها.
استندت السياسة الغربية تجاه إيران على الأوهام منذ سقوط الشاه في عام 1979.
فنرى أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة اعتمد على فرض العقوبات الاقتصادية بهدف إرغام طهران على تغيير سياسيتها وسلوكياتها.
لكن ارتكاب الأميركيين أخطاء كثيرة قد أدى إلى تعزيز قوة إيران ومنعتها ودفعها للتحالف الوثيق مع العراق وسورية ولبنان وجميعها دول قريبة على البحر الأبيض المتوسط والحدود الشمالية «لإسرائيل».
وعلى الرغم من خضوع الاقتصاد الإيراني لعقوبات صارمة، إلا أن هذه العقوبات لم تفض إلى انهياره أو تصدع الجهاز الأمني. في رد إيران على قرار ترامب بالنكول عن الاتفاق النووي المسمى بخطة العمل الشاملة المشتركة وإعادة فرض العقوبات، عمدت طهران إلى إطلاق التهديدات بإعادة البدء بتخصيب اليورانيوم لصنع السلاح.
وفي حال تمكنت طهران من الحصول على الأسلحة النووية فإن احتمال نشوب حرب وشيكة سيزداد وسباق التسلح النووي سيعم في المنطقة مما يهدد أمن أوروبا.
وتحسباً من الوصول إلى تلك النتيجة عمدت أوروبا إلى إجراء مفاوضات نووية مع إيران في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وذلك عقب الغزو الأميركي للعراق.
لكن وصول الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى السلطة أدى إلى تغيير في الاستراتيجية الغربية بشكل تام.
بيد أنه في الوقت الحاضر قلب ترامب التقدم الذي جرى إحرازه خلال سنوات تولي أوباما وبات من الواضح بأن أوروبا أضعف من منع إيران من تطوير سلاحها النووي.
ما يجدر ذكره، أن الهدف من عقد صفقة خطة العمل الشاملة المشتركة لا يقتصر على أهداف منع الانتشار النووي، بل يشمل أيضا اندماج إيران مع المجتمع الدولي.
إذ لاحظ أوباما على غرار ما لاحظته أوروبا أن عزل إيران لن يجدي نفعاً، وإشعال حرب في المنطقة لا يعد بالخيار الصحيح. لكن نتيجة ما اتخذته إدارة ترامب من قرارات، فقد أغلقت الطريق الوحيد القابل للتطبيق والتحرك نحو الأمام.
لا شك أن إيران تمتلك كياناً سياسياً وثقافياً متميزاً على مدى 2000 عاماً يندر وجود مثيل له في منطقة أخرى.
وإن هذه الحضارة العريقة ستلعب دوراً في المنطقة والعالم الأوسع، لذلك فإن الإضرار بمصالحها سيفضي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط برمته ويزيد من مخاطر الحرب التي ستمتد إلى ما بعد حدود المنطقة.
منذ بدء انسحاب الولايات المتحدة الجزئي من الشرق الأوسط إبان عهد أوباما سادت الصراعات بين إيران والسعودية وإسرائيل. وعلى الرغم من أن خطة العمل الشاملة المشتركة أدت إلى تقارب مع إيران، إلا أنها لم تخفف من حدة التوترات بين المتنافسين في الشرق الأوسط وخاصة أن السعوديين والإسرائيليين لديهم القدرة على العبث بأمن هذه المنطقة.
لقد وضع ترامب نفسه في متاهة مع إيران جراء الانسحاب من الاتفاق النووي دونما تقديم أسباب وجيهة.
وفي القريب سيصل إلى مفترق طرق حيث سيتعين عليه الاختيار بين فقدان ماء وجهه أو إعلان المواجهة العسكرية.
وفي كلتا الحالتين، فسوف يخيب آمال ناخبيه ويجعل الشرق الأوسط والعالم بأسره مكاناً محفوفاً بالمخاطر.