في اغتيال المرحوم رفيق الحريري التي تم الحديث عنها بإسهاب في وسائل الاعلام المختلفة,الا ان القرار اضحى امرا واقعا وضاغطا مما يقتضي البحث في خيارات التعامل معه والتداعيات المحتملة لكل خيار .
ان القرار قد صيغ بطريقة تحد من امكانية المحاورة او المناورة في تطبيقه وتجعل خياراتنا محدودة,ابرزها:
أ- التعاون الكامل كما ورد في نص القرار,وهنا نسأل ما الشروط المطلوبة حتى يعتبر التعاون كاملا?
وفق المعلومات المتوافرة فإن الشهادة بالكمال وفق منطق المحقق الدولي ديتليف ميليس وفريقه مرهونة بالاعتراف بشكل ما بالمسؤولية الكلية او الجزئية عن جريمة الاغتيال وهذا ما لا يمكن لسورية القبول به, لان في ذلك:
-اعتداء على الحقيقة التي يطالب الجميع بالكشف عنها,فلا مصلحة لسورية بغياب المرحوم الحريري عن المشهد السياسي اللبناني فكيف بالمساعدة على تصفيته او اغتياله .فالرئيس الحريري هو انتاج العصر السوري في لبنان قبل ان يكون صناعة اي طرف اخر عربي او دولي.
-وفيه اعتداء على سيادة الدولة السورية وانتقاص من شرعية السلطة فيها ,فالمطلوب كما تتناقل وسائل الاعلام كخطوة اولى تسليم مجموعة من المسؤولين السوريين على الحدود اللبنانية السورية. السؤال هنا أي سيادة ستبقى لسورية وأي شرعية لسلطتها عندما تقدم على ذلك دون قرائن تؤيد الشبهة او دليل يثبت الاتهام?
لست خبيرا في الشؤون القانونية لكن ما هو معروف وشائع حتى في حال وجود اتفاقيات بين الدول لتسليم المطلوبين يقتضي ذلك تقدم الدولة الطالبة لتسلم مواطنين من دولة اخرى بجملة من القرائن والادلة بحق هؤلاء المطلوبين يتم فحصها والتحقق منها من قبل الدولة المعنية الاخرى وبعد ذلك يتخذ القرار بالقبول او الرفض.
اما هنا فالمطلوب مواطنون سوريون يسلمون على الحدود بلا قرائن او ادلة, كأن المحاكمة قد جرت والحكم قد صدر والمطلوب التسليم لتنفيذ العقوبة وليس للاستماع او الاستجواب?!
ألا يذكرنا ذلك بحالات الهزيمة في الحروب حيث تطالب الدولة المنتصرة الدولة المهزومة بتوقيع صك استسلامها بلا قيد او شرط? فهل تحول ديتليف ميليس الى دولة منتصرة وسورية الى دولة مهزومة ? وهل تحول الاغتيال الى حرب والتحقيق الى جيش بقيادة الجنرال ميليس?
-وفي ذلك ايضا دخول في نفق لا ضوء فيه وطريق لا نهاية له. ان القبول بتسليم مواطنين سوريين دون قرائن او أدلة, إلا قرينة النزوة او دليل الرغبة لدى المحقق الدولي سيعني ارتباط مصير المواطنين السوريين بنزوات هذا المحقق او رغباته ويحول جميع السوريين الى مطلوبين محتملين?
لا اعتقد بأن سورية والسوريين قادرون على القبول بوصاية كهذه الا اذا استطاع اقوياء هذا العالم ارغامهم على ذلك بإحياء زمن الاستعمار واستحضار عصر الانتداب?!
ب- اما الخيار الآخر فهو التعاون المقيد بمتطلبات السيادة الوطنية وضروراتها,مما يقتضي التراضي والتفاهم بين سورية ولجنة التحقيق الدولية على مكان التحقيق وآلياته,والمؤسسات القضائية ذات الاختصاص.... وأمور اخرى عديدة ذات صلة . اغلب الظن ان ذلك لن يكون مقبولا للجهات الدولية الراغبة في توظيف القرار اداة لاستهداف سورية خاصة الولايات المتحدة الامريكية,مما سيقود لتداعيات عديدة منها:
-محاولة التدخل بالقوة لتحقيق اغراض سياسية في سورية والمنطقة ,وأجد في ذلك احتمالا واردا لكنه احتمال ضعيف. احتمال وارد لان اصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تضمين القرار الإشارة الى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وفق النص التالي:
( وإذ يتصرف -مجلس الأمن- بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة) فيه إشارة لاحتمال استخدام القوة وان كان ذلك وفق منطوق القرار لا يمكن أن يتم بشكل تلقائي بل يحتاج الى إجراءات أو قرارات دولية أخرى. لكن بالتحليل السياسي يمكن الاستنتاج بأن لجوء الولايات المتحدة الأمريكية لهذا الخيار هو احتمال ضعيف بسبب وضعها الصعب في العراق من ناحية والنتائج المترتبة على استخدامها القوة ضد سورية من ناحية أخرى. إن استخدام القوة مع سورية حتى لو نجحت من الناحية العسكرية سيحول المنطقة القريبة (على الأقل من بغداد الى عمان مروراً بلبنان) الى ساحة مواجهة حقيقية بين الولايات المتحدة والقوى المناهضة لسياساتها وتوجهاتها, فما جرى ويجري في العراق بعد سقوط النظام الحاكم ليس إلا نموذجاً قابلاً للتعميم على المنطقة ككل. مما يجعل من محاولة كهذه مرتفعة الثمن مادياً وبشرياً بالنسبة للرأي العام الأمريكي ويحولها الى مغامرة باهظة التكاليف سياسياً بالنسبة للإدارة الأمريكية, ومع هذا أجد من الضروري التذكير بأن ذلك يضعف لكن لا ينفي هذا الاحتمال بشكل كامل لأن الإدارة الأمريكية الحالية مشهود لها بسياسات يصعب تبريرها حتى من منظور المصالح الأمريكية نفسها.
يبقى الاحتمال الآخر لدى الإدارة الأمريكية هو السعي لفرض عقوبات اقتصادية أو سياسية على سورية من خلال مجلس الأمن وهذا احتمال قائم وربما كان الاحتمال الأرجح, والسؤال المشروع هنا هل تستطيع سورية الصمود أمام العقوبات?
الإجابة ترتبط الى حد بعيد بالقدرة على تعزيز التماسك الداخلي عن طريق توفير مستوى عال من الوحدة الوطنية. إن الوصول الى هذا المستوى يقتضي -وفق ما أرى- عملية إصلاح شاملة تهدف في جوهرها الى توسيع دائرة الشراكة في الوطن عبئاً ومنفعة, فالوطن ملك الجميع والدفاع عنه مسؤولية الجميع أيضاً. من مستلزمات عملية الإصلاح تلك الآتي:
- تنشيط العملية الديمقراطية في سورية عن طريق الإسراع بإصدار قانون الأحزاب مع الأمل بأن يلحظ القانون الجديد تمويل الأحزاب القائمة أو الجديدة عن طريق الموازنة العامة للدولة, وفق نسب يتم تحديدها تراعي على سبيل المثال (حجم الحزب, قدرته التمثيلية... وما شابه). قضية التمويل هامة كي تبقى الحياة السياسية في البلاد تحت سقف الوطن, وكي لا يتذرع البعض في المعارضة بالضرورات المادية لكسر المحظورات الوطنية بالتعامل مع الخارج. وللأمانة يمكن القول بأنه حتى الآن مازال التعامل مع الخارج من قبل المعارضة السورية حالات قليلة ومعزولة محكوماً عليها بالاستهجان والادانة من قبل الشارع السوري .كما اجد من الضروري ان يوفر القانون الجديد حرية اختيار التحالفات الداخلية للاحزاب التي تحصل على ترخيص,طالما ان ذلك سيتم تحت سقف الوطن ووفق ضوابط القانون. فليس ضروريا ان تكون الاحزاب الجديدة جزءا من الجبهة الوطنية وليس من الضروري ايضا ان تدخل الجبهة بقوائم موحدة في الاستحقاقات الانتخابية المستقبلية, فحرية الاختلاف او الائتلاف يجب ان تكون مضمونة بنصوص القانون. ومما يساهم بشكل كبير في تنشيط العملية الديمقراطية هو تمكين الاحزاب الجديدة من امتلاك وسائل الاعلام او استخدامها للتعريف بنفسها والتعبير عن مشاريعها, كذلك شفافية الاستحقاقات الانتخابية مستقبلا لانها تساهم في تعزيز مصداقية التوجه الديمقراطي للبلاد وتعطي للجميع سلطة ومعارضة فرصة للتعبير عن حجمهم الحقيقي في الشارع السوري وتتيح الامكانية لمختلف القوى السياسية لممارسة دورها وتحمل مسؤوليتها الوطنية بما يتناسب وهذا الحجم بعيدا عن ذارئع التضخيم او التهميش والاقصاء.
-تسريع عملية الاصلاح الاقتصادي بما يساعد على تطوير اداء الاقتصاد الوطني وتحسين مستوى عدالة توزيع الدخل في البلاد. تم تناول هذا الموضوع بمجالاته وآلياته المختلفة بشكل مسهب في وسائل الاعلام على مدى سنوات عديدة سابقة,لذلك سأكتفي بالاشارة الى ضرورة اعتماد برامج الاصلاح الاقتصادي المقدم الى الحكومة منذ اواخر الشهر الخامس من عام 2003 اساسا للخطة الخمسية العاشرة.
-الالحاح على استمرار التواصل والحوار مع العالم الخارجي الصديق منه والخصم . الصديق لتقوية صداقتنا معه والخصم لكسبه او تحييده او التخفيف من خصومته وهذا اضعف الايمان.
جملة القول ان القادم قد يكون صعبا لكنه ليس مستحيلا وان خيارنا وحيد هو الصمود.
صمودنا يقتضي صلاحنا...فلنعمل على اصلاح ما افسدته الحياة فينا او افسدناه في حياتنا ...فهل نفعل?