في منتصف شهر نيسان من عام(1970) سافرت للمرة الأولى في حياتي إلى بيروت بقصد الترويح والاستشفاء, وكان لي من العمر اثنان وثلاثون عاماً, وفي أثناء إقامتي التي استمرت في ربوعها عشرة أيام ضيفًا مع زوجتي وابنتي الطفلة على أقرباء لها هناك:
اتصلت بأديبة باحثة طرابلسية عبر الهاتف هي الآنسة(نجلا الطبال)... وكانت قد تعرفت بي في حمص وطلبت مساعدتي لها في إنجاز رسالة جامعية تدور حول حياة صديقي الشاعر الراحل عبد الباسط الصوفي مع دراسة لشعره... وقد وجهها إلي الشاعر الصديق علي الجندي لهذا الغرض وكنت وقتذاك مديراً للمركز الثقافي العربي في حمص... فلم أضن عليها بجهد ومددت يدي مبسوطة لمعاونتها في عملها طوال مدة تحضيرها وإعدادها له... إلى أن انتهت من إتمامه, ورجوتها أن تؤمن لي لقاء بالشاعر خليل حاوي الذي كان له الفضل في تنبيهها إلى بحث الصوفي بحثاً أكاديميا لإعجابه بإنتاجه الشعري كما أخبرتني سابقاً... وقد جرى شغلها له تحت إشراف الدكتور جبور عبد النور إذا صدقتني الذاكرة في اسمه وأجيزت على يديه في شهادتها الجامعية, فاستجابت هذه الباحثة المذكورة مشكورة لطلبي وضربت لي موعداً مع هذا الشاعر العربي الكبير, فالتقيته بصحبتها في مكتبه الفسيح بالجامعة الأميركية حيث كان يدرّس فيها الفلسفة و الأدب العربي.. حدث ذلك في يوم مطري سكوب من أيام شهر نيسان, مكفهر بالصواعق و الرعود و العواصف.. كان رجلاً وسيماً, أميل إلى النحافة , وجهه أسمر مخضب بالحمرة في وجنتيه, عيناه وقادتان ببريق رمادي خريفي حزين.. و غارق بدمع حبيس أبي, أما جسده فمنتصب متصلب مشدود القامة.. استقبلني بترحاب و أريحيه وبشاشة, وبتلقائية و حميمية و تواضع كأنه يوحي لي بأنني صديق شخصي قديم له و ليس من تكلف أو تكليف بيننا.. بعد السلام والتحية دارت أحاديثنا حول الشعر و الأدب والفكر والنضال و المقاومة و القضية الفلسطينية بشكل عام أولاً, ثم حول حمص و شعرائها ثانياً و سورية بالتالي بوجه خاص, و عرج هو بالكلام على ( ديك الجن الحمصي) ورأى ضرورة إعداد مجموعات عمل أدبية متدربة و متخصصة من كليات الآداب في الوطن العربي و من المؤسسات الثقافية الرسمية في الأقطار العربية للعثور على ديوانه الكامل الضائع أو لجمع المشتت منه في المظان هنا و هناك و المتناثر في مخطوطات المكتبات العالمية, ووصف تجربة هذا الشاعر العباسي المجيد بأنها نسيج وحدها بما تحمله من صبغة تراجيدية في حياته و شعره قلّ نظيرها في آداب الأمم الأخرى و أن المسرح بالذات يمكن أن يستفيد من فحواها استفادات متعددة الوجوه و أن الأدباء العرب يستطيعون أن يكتبوا عنها مسرحيات شعرية و نثرية برؤى فلسفية جديدة ذات مغزى وجودي و أفق أنساني وإسقاط شعري, و تضمين أبيات مؤثرة مشهورة من شعر هذا الشاعر في علاقته بمحبوبته( ورد) و غلامه(بكر) و قتله لهما ثم ندمه الجارف على ذلك, داخل النص المسرحي موظفة توظيفاً فنياً لخدمة البنية الدرامية فيه و إحداث التأثير الموجع لدى المتلقي لتتم عملية التطهر عنده بأبعاده المختلفة.
ثم انتقل بنا الحوار سمتاً آخر أملته طبيعة الأخذ و الرد في أي حديث يدور بين اثنين فأخبرني- مستذكراً- عن جهوده الشاقة في إعداده لرسالة الدكتوراه التي صاغها بالانكليزية الراقية وقدمها لجامعة ( كمبردج) في انكلترا لنيل شهادته عن (جبران خليل جبران: إطاره الحضاري و شخصيته و آثاره) ونيته في أن يترجمها بقلمه إلى العربية ليضمن دقة نصه المترجم, و ينشرها حتى يستفيد القارىء العربي مما جاء في طياتها من دراسة مخبرية تتناول أحد كبار الأدباء العرب المهجريين ببعديه العربي و العالمي و قد وصفها النقاد الكبار عرباً و أجانب بأنها أفضل دراسة منهجية موضوعية عن جبران (صدرت الترجمة عن دار العلم للملايين في بيروت وقام بها سعيد فارس باز بإشراف المؤلف و قد نشر الكتاب في أيلول عام 1982) وعن مشاريعه الشعرية و النقدية المؤجلة, لكنه إشكالي- ببوح إنساني خاص- من حالة توتره العصبي المتواصل و قلقه النفسي الدائم إضافة إلى معاناته معاناة ضاغطة يصعب عليه احتمالها من التهاب حنجرته المزمن و آلام معدته المبرحة على الرغم من تناوله لأنواع الأدوية المسكنة والمهدئة للشكاوى الصحية موضوع الحديث, ثم استدرك قائلاً كل هذه الأمور المعضلة قد تهون أمام شعوري الحاد بالهلع من التقدم في العمر ورعب الهرم و ثقل الشيخوخة و حشرجات الموت( كان وقتذاك في الثانية و الخمسين من العمر) وأردف: إن هذا الوضع الجسدي والروحي لا يجعله ينهض كما ينبغي بأعباء مسؤولياته الأدبية و الأكاديمية ضمن المستوى اللائق به كشاعر وناقد و أستاذ جامعي على درجة عالية من التميز ما يزيده مرارة من تفاقم أزمته الذاتية الموشكة على الانفجار وقلقاً مفرطاً من نتائجها إذا طالت وطأتها عليه.. و خروجاً من هذا الجو المشحون بالسوداوية, عرجت من طرفي على الحديث عن شعره و إعجابي وجيلي به و بما يختزنه من اقتدارات ابداعية تموزية التجليات نادرة المعالجات تشكل مدرسة أو تياراً من تيارات الشعر العربي الحديث له خصوصيته و تفرده وصوته المنكه بالنكهة الحضارية الفائقة الحضور الشخصي الشعري له و لتجربته الرائدة.. و ذكرت له أن عدداً من شعراء سورية المحدثين و من حمص على وجه التحديد قد تأثروا- آنذاك- بمناخاته الأسطورية و الرمزية الحديثة و دلالات عالمه الشعري بإيحاءاته الثرية و صاغوا صياغاتهم الأدائية متشابهة أو متقاربة أو ملتبسة أحياناً بأجواء قصائده ومداراتها و إلهاماتها وموضوعاتها و انبهر بقدرته الباذخة على نحت جملته الشعرية نحتاً فنياً دقيقاً فيه جهد الابتكار و عرق الخصوبة و البعد قدر الإمكان عن المستهلك و النمطي و الجاهز من أساليب القول الشعري السلفي المكرور و السائد الممجوج و ضربت له مثالاً على ذلك التأثر عنوانات بعض أعمال الشاعر موريس في هذا الاتجاه و أهمية دوره المبكر في الكشف و الارتيادوحرث الحقول البور واستنبات الأزهار الوحشية من تربة بكر لا من تربة مرهقة بالحراثة الطويلة و منتوجاتها المتداولة, ففاجأني عندما أنبأني بأنه لم يقرأ له أي قصيدة, فعقبت على كلامه: لأنه ينشر محلياً فقط.. واستمر قائلاً:لكنني تابعت في مجلة( الآداب) قراءة قصائد لشاعر عندكم هو علي كنعان و أعجبت برومانسيته الريفية و غنائه الجريح.. أتوقع له مستقبلاً مبشراً يستحقه..
ثم اتجه بنا الحديث المتشعب إلى تجاذب النقاش و تطارح الاراء في حركة الشعر العربي المعاصر بروادها و أعلامها حينذاك فأبدى ملاحظاته و مواقفه حولها و حول نصوص شعرائها, لكنه كان متحفظاً في أحكام القيمة لا يطلقها جزافاً, وقد أفصح عن إعجابه بشعر السياب و اعتقد بأنه قادر على الصمود و معاندة الاندثار و الموت و خاصة في قصائده ذات النفس الملحمي, واعتبر مرضه ورحيله شاباً خسارة حقيقية لحركة الحداثة ومن الصعب تعويضها , و ختم : سيظل بدر حاضراً و لا يمكن نسيانه.
لما شارفت زيارتي على نهايتها خطرت لي خاطرة بارقة مفاجئة في أن أجري حواراً أدبياً معه في اليوم التالي إذا وافق, فرحب بالفكرة أيما ترحيب..وكان اللقاء في الغد و في المكان نفسه و تم على الشكل التالي: أنا ألقي السؤال المحضر من قبلي وهو يجيبني شفوياً على السليقة بينما أخط بقلمي كامل إجاباته.. وبدأنا العمل بحيوية و حماسة .. كان في ردوده يتدفق على الأغلب بالرؤى و الأفكار, و العوارف و التجليات دقق المحاضر الجامعي الحذق الدرب الواثق من صحة علمه ومعلوماته في قاعات الدرس, أو تدفق الشاعر العظيم الملتهب العواطف و هو ينضح من ذاته الفياضة ماء الإلهام ورعشة النبوة أو يقدح من جوارحه المتأججة نار الأسرار الزرقاء.. و يحيلها إلى قصائد من نور الديجور في مصهر روحه و مصفاة فنه.. واحياناً يصمت صمت المتأمل المفكر ويطيل التوقف عن الكلام لإيضاح فكرة أو تعميق جدل أو استحضار فلسفة, أو للربط بين إيماضة و أخرى أو مقارنة موقف بنقيضه في لحظة تركيز وتنظيم يعمل فيها العقل عمل المنطقي.. كان إما جالساً وراء مكتبه منكباً عليه وقد شبَّك كفيه, و إما متجولاً في غرفته الفسيحة يروح و يجيء بخطوات بطيئة وقد عقد ذراعيه خلف ظهره.. و في بعض الأحايين كان يطلب مني مستسمحاً أن أعيد له إجابة وصل الى منتصفها مثلاً ليكمل ما سبق له ذكره ويعقد الصلات المتساوقة بين المعاني و عباراتها و بين الأفكار و أسلوبياتها.. شأنه في شعره كشأنه في نثره قوة و متانة مع سلاسة و نداوة. أما أنا فكنت من جهتي أسجل أجوبته بسرعة فائقة آن ينهمر في الرد على أسئلتي كسيل عارم.. وقد استلفتت نظره مقدرتي على مواكبتي لإجابته كأن قلمي في اندفاعه بالكتابة يكاد يأكل الورق أكلاً فأوضحت له أنني في العشرين من عمري اشتغلت محرراً في الصحافة السياسية و الأدبية في جرائد حمص و برعت في التقاط نشرات الأخبار من الإذاعات لنشرها في الصحيفة وشهرت بذلك في أوساط جيلي من الأدباء الشباب.
< يتبع