|
جدتي وأنا..وتغيير العالم آراء - في مهمة وطنية خارج الضيعة - ألم يجدوا أكبر منك لأداء هذه المهمة..? - بلى..ولكني أنا الذي تطوع وصرخت جدتي في وجهي.. - وهل يوجد إنسان عاقل في الدنيا يتطوع لكي يموت - ليس هناك من موت..ولايحزنون - أنسيت أن الطريق التي سرت عليها ليلاً محفوفة بالمخاطر, هناك ضباع وأفاع وثعالب, وكلاب شاردة وربما ذئاب - لم يحدث, ولم أشاهد شيئاً من هذا.. وها أنا بلحمي وشحمي بين يديك - ومن أين لك الشحم واللحم ياولد..ألا ترى أنك جلد على عظم ثم إني أعرفك جيداً..لو قفز أرنب في وجهك ستموت من الرعب, إياك أن تكرر فعلتك هذه مرة ثانية. - بل سأكررها..لقد آليت على نفسي أن أغيّر الوطن والناس والتاريخ والعالم. - أنت يا ابن ال...ستغير العالم..اغرب عني ولاتدعني أرى وجهك بعد اليوم. وقذفتني بعلبة سجائرها النحاسية, فتمنيت في تلك اللحظة لو أن العلبة سقطت في أحد جيوبي, ولكن لسوء حظي تبعثرت هنا وهناك, ولم أجرؤ أن ألتقط سيجارة واحدة منها, فأسرعت في هبوط الدرج, وماإن وصلت إلى ساحة الدار حتى كان صوت جدتي يلاحقني بحنانه المعهود.. - لاتنس أن تأتي هذه الليلة أنا بانتظارك.. وفي المساء عدت إلى منزل جدتي, وكأن شيئاً لم يحدث, فاستقبلتني ببشاشتها, وظرفها وحنانها, وأطعمتني الزبيب والتمر والتين المجفف من مؤونتها, وكالعادة سرقت سيجارة أو سيجارتين ودخنتهما خلسة في العراء, وأمضيت السهرة معها, استمع إلى قصصها وحكاياتها ونصائحها ومواعظها. ومرت الأيام, كبرنا, نحن أحفادها وأصدقاؤهم, ومن يلوذ بهم من المعارف, تفرقنا في مغارب الأرض ومشارقها, ارتفع منا من ارتفع, وسقط من سقط, وتوظف من توظف, وحلق منا من حلّق بأجنحة, ومن حلّق بلا أجنحة, وسافر من سافر, وبقي من بقي في الضيعة راضياً بما كتبه الله له. ومرت الأيام عدت إلى الضيعة كسائح, وبحكم التقاليد العائلية قمت بزيارة جدتي أولاً, فوجدتها لم تتبدل ولم تتغير رغم أن السنين حفرت مزيداً من الأخاديد والتجاعيد في وجهها, وأحنت قليلاً من ظهرها, ولكني رأيتها هي..هي بشخصيتها القوية, وبذكائها الذي يطفر من عينيها, وحنانها الذي يتدفق من قلبها, وبادرتني قائلة: - هل غيّرت العالم ياولد - لا..لا لم أغير شيئاً..انظري إلي هل تغيرت أنا? - تبدو لي كأنك فوق الخمسين ماذا حلَّ بك ياولد? - لا أدري لقد تحولت إلى جثة متحركة ألهث دون جدوى وراء أحلامي وأوهامي كعصفور هارب لتوه من شبكة الصياد.. - ألم أقل لك إنك ستموت وأنت واقف مكانك وناولتني سيجارة, فقلت..والعياذ بالله..أنا لا أدخن فردت والابتسامة تعلو وجهها العجوز الملائكي. - أعرف أنك تدخن هذا السم اللعين, وأعرف أنكم كنتم تسرقون بعضاً من سجائري وتدخنونها في الخلاء.. وكنت أتجاهل ذلك لكي لا أحرجكم فأجرحكم. دخن ياولد سيجارة من سجائر جدتك أخذت السيجارة من يدها, ودخنتها لأول مرة بارتياح أمام جدتي قالت.. - اسمع ياولد..أنت تحب ورق العنب - صحيح ياجدتي - إذاً ستتناول الغداء معي..وسأقص عليك حكاية - سمعاً وطاعة - هل ترى هذه الزيتونة التي في الدار - إني أعرف كم غصناً فيها, وكم حبة زيتون يحمل كل غصن - قالت: هذه الزيتونة زرعها جدك واعتنى بها, وحنا عليها حنو الأب على ابنه..لقد رعاها ولم يتركها وحدها في يوم من الأيام لعاديات الزمن. غالب معها صقيع الشتاء القاسي, وقيظ الصيف وريح الخريف الشرقية, وفؤوس الحطابين. وفي إحدى السنين الباردة, حبك كانون من قلبه, من خيوط قلبه الأسود ولف الضيعة بها حتى إنَّ الواحد منا لم يكن يستطيع أن يرى أصابع يديه في العتمة, في تلك الليلة الغريبة, أحب جدك وأنت لاتعرفه كان فارس الفرسان في الرجولة والقوة والشهامة والشجاعة أحب أن يتفقد الزيتونة التي أحب, والتي سقاها من عرقه وجهده, فحمل قنديلاً, وسار نحوها, وحينما أصبح على بعد خطوات منها كاد يصعق..لقد رأى إنساناً من أهل الحارة يضرب الزيتونة بفأسه, يضربها بقسوة وبقوة لكي يقطعها ويتخذ منها حطباً يوقده في مواقده, مع أن جدك كان يوزع عليه من غلال الزيتونة مؤونته السنوية من الزيتون. كان جدك كما يعرف الجميع قوياً كالأسد. كان بمقدوره أن يضربه بقبضة يده حتى يقضي عليه, ولكن وضع الغضب في جيبه, وتركه يعمل, وظل الرجل يضرب الزيتونة بفأسه ضربات عشوائية مجنونة, إلى أن فرّت الفأس من عصاها وغرزت في رأس المعتدي. مات الرجل وبقيت الزيتونة خضراء كأحلام العذارى, وبعده مات حطابون كثيرون, أما الزيتونة, فإننا نقلمها كل عام, وهي تنمو يوماً بعد يوم, جذورها في الأرض وأغصانها في السماء, ومازلت بعد وفاة جدك كما تعلم أوزع زيتونها على من يستحقون. - شكراً ياجدتي - على ماذا? - على ورق العنب اللذيذ - والقصة - اعذريني..لم أستطع أن أفك رموزها - إذا كان ماتقوله صحيحاً فأنت فعلاً ولد ح.. *(دخلت مرحلة الشيخوخة, وماتت جدتي وهي تناديني بيا ولد.)
|