وقمران وزيتونة وما لها من أثر في ذاكرتنا البصرية ,قد تكون الدافع الأكبر لدى بعض الكثيرين , ولعل المبرر الوحيد للتدافع الجماهيري لحضور فيلمه .
( أيام الضجر) حكاية زمانية ومكانية , لم ترخ بظلالها - الوحدة بين سورية ومصر سنة 1958 -على مجتمع تلك المرحلة فقط بل امتدت بذيولها حتى يومنا هذا , فالتاريخ يعيد نفسه تماما . الجولان مكان يحتضن أسرة من الساحل السوري تتألف من الأب مصطفى (احمد الأحمد) المساعد في الجيش , والمتخصص في زرع الألغام أو نزعها , وزوجه (ريم زينو) الأم التي أنجبت أربعة صبية . (محمد جبارة , محمد عرب , عبد الرحمن عرب امين عباس) -وتتمنى أن تنجب فتاة وما أسرة المساعد مصطفى إلا جزء من نسيج اجتماعي , عاش مرحلة القلق والسأم ,في أجواء لم يكن الانفلات السياسي , والصراعات الداخلية , اقل وطأة من الصراعات الخارجية , المتمثلة في محاولات بعض القوى العربية الاستنجاد بأميركا للضغط على سورية , وقد وجدت هذه الأخيرة الفرصة لإرسال أسطولها إلى لبنان , والأحداث تتسارع أيضا في العراق الذي يتخبط بحلف بغداد , والدول العربية الأخرى لم تكن بأفضل حالا . وما أشبه اليوم بالأمس .
تتكرر الأحداث , و معها الأخبار , والمانشيتات والعناوين لتثقل بدورها كاهل مجتمعنا المعاصر كما أثقلت أسلافنا وأضجرتهم , ولم تساعد أغنيات ذلك الزمان في التخفيف من تراكم هذا الإحساس المرهق وتصاعده .
الصورة والمشهد التاريخي هذا يمررها شريط عبد الحميد السينمائي بلغة بصرية شفافة ,هادئة وبسيطة , ولم تكن شخصياته بأقل من ذلك . وهي التي حركها بأسلوب الكوميديا السوداء , عبرت عنها جسديا في أحيان كثيرة ,النابعة من الموقف , فبقدر ما أثار مشهد ما فينا الضحك أثار فينا مشهد آخر البكاء . هذه هي حال مجتمع عاش التناقضات والمفارقات .
الضجر .. مفردة يعيشها الأطفال في تفاصيل حياتهم اليومية , مع ذلك لم يستسلموا ولم يضلوا طرق الصواب في البحث عن أسلوب جديد وابتكار طفولي يؤجل الضجر , أو يكسر تلك الحالة النفسية , المترقبة لحدث طارئ , كإطلاق زمور الخطر , انذاراً لحرب قادمة , أو كسرا لحاجز الخوف من الفقدان . فقدان لأب متكرر الغياب, الكثير المهمات العسكرية , ولا يعرف متى يعود اليهم , او تخفيفا من ضجر الزوجة من هذا الغياب , فكان ضجرها وقلقها على مصير الأسرة اكبر , امتحنها المخرج عبد الحميد عبر صورة أم متواترة , وبسياق درامي منسجم مع البناء العام للفيلم , تفرضه الظروف الحياتية -دخول الحية إلى المنزل و قتلها بشجاعة امرأة ريفية , ومن ثم مشهد غياب الأطفال عن الوعي جراء أكلهم لثمرة برية -.
عبد الحميد صالح الأطفال مع واقعهم في الجولان , فتأقلموا حتى مع حياة الجند على خط التماس مع اسرائيل ,مساهمين في حفر الخنادق وبلا وعي منهم شاركوا في حربهم القادمة والمستمرة مع عدو دائم , ويكتمل انسجامهم مع الدبابة المعطلة أمام منزلهم , فكانت هي الأخرى فردا من العائلة , وملاذا لأفكارهم ولأحلامهم , ولشعاراتهم ,وبرج مراقبة للأبوين الغارقين في ممارسة الحب , وهي في الوقت ذاته رمزا للانكسارات والهزائم , لا سيما وأنها شكلت حلقة مفرغة لجنود يلتفون حولها ,هائمين في مستقبل غائم , تماما كما هي حالة الإجهاض التي تعرضت له الزوجة , بعد أن عادت الى بلدها اللاذقية , اثر أمر عسكري فرض جلاء كافة الأسر من المكان,وإعلان حالة الاستنفار بعد دخول الأسطول الاميركي لسواحل لبنان , وما هذا الإجهاض إلا وأد لشعارات النضال , والوحدة . فما زرع في رحم الأم , أجهض في لغم اقتلع عيني الأب مصطفى , وذلك حين مزج المخرج بين مشهدين في مشهد واحد — دفن الأطفال لأختهم الهلامية , والأب للغم في الأرض -
الضجر رافق الأولاد إلى محافظتهم , رغم اختراعهم لأساليب جديدة , وسعي خالهم الترفيه عنهم بالاتفاق مع والدتهم على جلب طبل ومزمار . علها تنقذ روحهم من عبء الضجر , والنهاية انتظار وترقب , فلم يكن جلوسهم مطولا على كراسيهم إلا دلالة على تلك الحالة.
أنهى عبد اللطيف فيلمه بمشهد ميلودرامي , مؤلم عاد الأب معصوب العينين ويده مبتورة ,جلس على كرسي الانتظار , في المقابل هو غير فاقد لحماسته ولقوة إرادته , ولا لسلوكه الحياتي ,مناديا أطفاله , ومداعبا إياهم بحركات كان اعتاد الأطفال عليها ,وفي ذلك استقلاب لصدمة المفاجأة , وإعادة بث الفرح في المنزل .
وبقي السؤال معلقا :
هل كان المزمار والطبل ورقص الأب على ايقاعهما السبيل لتلوين الإحساس بالضجر... يبقى الأمل في عيني ذاك الطفل الجميل الدامع , الراكب صهوة الحياة , الذي زين رأسه بتاج من الورود .