إلى أين تتجه تركيا، أإلى الوجهة التي يريد اردوغان السير في هذا البلد الذي اعتبره الغرب يوماً ما النموذج المثالي للإسلام المعتدل الهجين مع الليبرالية الاقتصادية, والذي رفعه حزب العدالة والتنمية إلى قمة السلطة في البلاد منذ عام 2014، بعد أن أمضى عشر سنوات على رأس السلطة التنفيذية التركية، ؟ ثمة أمر مؤكد، على أقل تقدير، وهو أن الوقت يبدو قد حان للتخلص من الوهم وطرح الأسئلة حول مستقبل تركيا، التي بقيت عضواً في حلف شمال الأطلسي ولاعب جيوسياسي لا بد منه في منطقة الشرق الأوسط، حيث تحرق فيه الأخضر واليابس دوامة حروب مستمرة منذ عقدين من الزمن.
وفي هذا الصدد صرح المفكر والكاتب التركي أحمد انسل مؤلف كتاب ( تركيا اردوغان الحديثة ) على أثير إذاعة فرنسا الدولية عشية الانتخابات التشريعية التي شهدتها تركيا في شهر حزيران من عام 2015 أنه « قد ولت الفترة الأولى التي تجلت من خلال الحماس لإجراء إصلاحات ( إلغاء حكم الإعدام والمحاكم استثنائية وصياغة قانون جزائي جديد. ) من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لأن السلطات التركية قد أحكمت قبضتها الحديدية اعتباراً من أعوام 2007 – 2008. واستأثر اردوغان بها بعد أن أقصى المؤسسين الحقيقيين لحزبه.» ويستطرد القول « إنه الغموض الذي يلف الغالبية وشخصية أفرزتها آلية انتخابية مقبولة تطمح إلى الاستفراد بالسلطة « وبالتالي فقد اتجه النظام نحو « الانحدار الاستبدادي ». وجسد اردوغان هذه التوقعات، وصار قادراً على « لعب دور المسرع والمضاعف».
ولكن ما لم يتم كتابته منذ فورة الرئيس تلك، والذي يمكن اعتباره منطلق احتجاج النظام هو وجود 1845 شكوى بتهمة ( إهانة رئيس الدولة ) وعمليات التطهير في صفوف الشرطة في أعقاب فضيحة الفساد التي جرى الكشف عنها ما بين تاريخ 17 و25 كانون الأول من عام 2013 وطالت عدداً من الوزراء وأعضاء حزب العدالة والتنمية ونجل اردوغان، وكذلك القمع الدموي خلال شهر أيار عام 2013 لمظاهرات أحزاب مناهضة للسلطة في منتزه جيزي وميدان تقسيم في اسطنبول، وأيضاً ملاحقات على نطاق واسع لأكاديميين ومثقفين ومناضلين من اليسار ومناضلين أكراد وأعضاء من جماعة عبد الله غولن وأشخاص متهمين « بالإرهاب « أي حوالي 11000 شخص، وفق الأرقام الرسمية لا زالوا ينتظرون محاكمتهم.
ومما لا شك فيه أن الإعلام يعتبر لعنة السلطة. ويعتبر قرار الحكومة في السادس من أذار المنصرم القاضي بالسيطرة على صحيفة « زمان « الأوسع انتشاراً في البلاد والأكثر انتقاداً للنظام الحلقة الأبرز في الاعتداءات المتكررة على حرية الإعلام. هذا وقد تم محاكمة الصحفيين كان دوندار واردن غول من صحيفة « جمهورييت « في 25 أذار المنصرم بتهمة التجسس ومحاولة الانقلاب ضد الدولة ودعم الإرهاب. وقد خاطروا بعقوبة السجن المؤبد لأنهم كشفوا عن تسليم أجهزة الأمن لدى نظام اردوغان السلاح للجماعات المسلحة في سورية. ووفق ما صرح به اندرو، المختص بالشؤون التركية لدى منظمة العفو الدولية فإن « الحكومة التركية من خلال محاولتها خنق أي صوت ينتقدها، تنتهك حقوق الإنسان ».
وضمن هذا السياق، فتح اردوغان عدة جبهات لحرب داخلية ضد الديمقراطية. فالرئيس الذي يعيش في قصر يضم آلاف الحجرات ( كلفته تقدر بحوالي 615 مليون دولار ) ويحمل الرقم القياسي في طول العمر السياسي في البلاد رسم لنفسه أحلام واسعة. ويعلق أحمد انسل على ذلك بقوله « يطمح لأن يكون مركز جديد للعالم الإسلامي، ويكون المؤسس الثاني لتركيا أو مؤسس تركيا المحافظة المتصالحة مع ماضيها العثماني. كما ويحلم بالعظمة. وهو قضية اللاوعي لديه، وللأسف هو اللاوعي الجمعي لجزء من السكان.»
وفي انتظار ( العودة ) الحالمة للزمن المجيد، فإن المجتمع التركي ينتظره هبوط نحو الجحيم. ونبدأ من الاعتداءات المنسوبة لتنظيم داعش، والتي استهدفت بشكل خاص قطاع السياحة الحساس. وآخرها وقع في 19 أذار في مركز تجاري حيوي في اسطنبول وراح ضحيته أربع أجانب. وخلال شهر كانون الثاني وقع تفجير انتحاري في أحد المواقع التاريخية وراح ضحيته العشرات. وفي شهر شباط وآذار هز وسط العاصمة أنقرة انفجاريين بسارتين مفخختين راح ضحيتهما ستين شخصاً. ولأنه مسكون بهاجس إسقاط الحكم في سورية، دعم اردوغان المجموعات المسلحة، وبسبب هاجسه بإشعال حرب مع الأكراد وملاحقة معارضيه تركت الحكومة التركية البلاد مكشوفة الظهر تتعرض أكثر من أي وقت مضى لإرهاب داعش، والتي تسعى لجرها إلى الدوامة الوحشية التي تضرب الآن سورية والعراق. إن تركيا تدفع ثمن استراتيجيتها المتحالفة مع السعودية في محور يناهض إيران، وفتور مع مصر والعراق وروسيا.. إنها دبلوماسية الفوضى وأقل ما فيها هي دبلوماسية التعكير. وهذا يعكس الاتفاق غير الأخلاقي الموقع مع تركيا في 18 أذار المنصرم حول مصير المهاجرين. « لا تعيدونا إلى تركيا ! « تتوسل إحدى العائلات المحتجزة في اليونان، حيث بات بوسع أنقرة الآن استقبالهم مقابل ستة مليار يورو واستثناء مواطنيها من تأشيرة دخول إلى أوروبا وإنعاش الوهم بانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
إن عزاء اردوغان، الذي يأمل، دون شك تعزيز شعبيته، تتمثل في قيادة مؤيديه لرص صفوفهم خلف حزب العدالة والتنمية، ولا سيما عبادة الشخص الذي يدعيه. « فالسلطان « الجديد يقامر على نحو متزايد في زعزعة استقرار البلاد، كما أنه يعتمد في حكمه على الانقسامات والمواجهات بين مكونات وأطياف المجتمع التركي. ويؤكد الأكاديمي أحمد انسل أن « تركيا تعيش حرباً أهلية مخفية ».