ولا عن الشباب الذين يشاركوهن التمثيل بسبب حسن هيئاتهم.إنهم جميعاً يدخلون مهنة التمثيل ليخرجوا منها..فالصبايا يتزوجن، والشباب ينتقلون إلى أعمال أخرى إذ إن الانتظار قد يعييهم أو أنهم من الممكن أن يتولوا الزينة الداخلية أو تلك الأعمال التي تتم في الكواليس. ما أعنيه بكلامي عن مشقة التمثيل هو لقلّة من أولئك الأشخاص المطبوعين الذين يمتلكون الموهبة والرغبة في استخدام هذه الموهبة.
إن مهنة التمثيل تتطلب جهداً مضنياً قبل إحراز الكفاية، وقد كان الممثل قبل انتشار الفضائيات بهذا الكم الهائل يتعب كثيراً حتى يصبح بالجهد قادراً على تمثيل أي نوع من الأدوار، ومنهم من كان يدركه السن، فلا يقوى إلاّ على قليل من الأدوار..إنها مهنة الصبر الذي لا حدود له. وقد كانت مشبعة بالخيبة أحياناً وينبغي أن يحتمل صاحبها فترات من البطالة الإجبارية إذ إن شركات الإنتاج كانت قليلة جداً ولم تكن موجودة هذه التقنيات التي بين أيدي المخرجين هذه الأيام.
كان الممثل تحت رحمة الحظ ومزاج الجمهور المتقلب أحياناً، وسرعان ما كان الجمهور ينساه إذا كف عن إرضائه، ولن يجديه أنه كان معبود الجمهور يوماً ما، وعليه أن يتضور جوعاً دون أن يكترث به أحد.
لقد مرت فترة كان فيها المسرح باباً إلى الشهرة الرومانسية، وكان كل من اتصل به يبدو مثيراً وغامضاً. واعتباراً من القرن المنصرم وحتى هذه الأيام فقد أعطى الممثلون للحياة مسحة من الخيال المشوق، إذ كانت حياتهم اللامنظمة فتنة تخلب اللب في سن الرشد والأدوار البطولية التي لعبوها والشِعر الذي قيل كل ذلك أحاطهم بهالة خاصة.
مؤخراً اختفت حالة الانتظار لدور ما، واستقر الممثلون وأصبحوا ميسوري الحال..لقد آلمهم أن يُنظر إليهم على أنهم صنف خاص من الناس، فعملوا لكي يصبحوا كغيرهم. يركبون السيارات الفاهرة ويرتدون الألبسة الفاخرة والحلي ويشاركون في بعض العمليات التجارية الكبيرة ومنهم من بات من أصحاب الشركات أيضاً!
ولكن لو حاولنا الدخول إلى شخصياته فقد نجدها مستمدة من الأدوار التي يمثلونها، أو لنقل بشكل آخر قد نجدهم قابلين للتلون بأي لون يرتدون أي شكل قد يتناسب مع تلك الشخصيات.
أما الكتّاب.. فهم في واقع الأمر يشتركون مع الممثلين في معاناتهم الطويلة قبل التطورات الهائلة في مجال الطباعة والكتابة. لقد كان الكاتب يقضي معظم أوقاته وراء طاولته ممسكاً بالقلم يحاصر بياض الأوراق في محاولة لإخضاع الفكرة التي تراوده عن نفسها دون أن تسفر عن حجابها. كان يقضي أياماً وليالي في مطاردتها ومحاولة استكشافها حتى تستقيم أمامه وتصبح كما يريدها.
كان نتاج الكاتب رهن أذواق الجمهور أيضاً..فإن استساغ جمهور القرّاء ما أبدعت أنامله فقد لا يندم على وقت قضاه في عزلته بعيداً عن أعزّ أقاربه ومحبيه وإلاّ فسوف يُطوى عمله دون أن يدرّ عليه ما يقتات به من أبسط الأشياء. لكن ومع التطورات الكبيرة التي حدثت أيضاً في مجال الكتابة والطباعة فلم يعد على الكاتب أن يحصر نفسه بعيداً عمّن يحب يكتب ويكتب ويكتب ثم يمزّق ما كتب ويعاود الكتابة من جديد. الأمر هذه الأيام أبسط وأسهل، إذ إنه ماعليه سوى الجلوس خلف طاولة الكومبيوتر ليقوم بحذف بعض الكلمات أو السطور التي يريد تعديلها وهذا لا يتطلب منه الجهد والوقت الكبير. أضف إلى ذلك انتشار دور النشر بكثافة وظهور عمليات التنافس فيما بينها سعياً وراء الربح أحياناً مما أدى إلى إصدار العديد من الأعمال التي لا تستحق ثمن الحبر الذي كتبت به.
يتشابه الممثلون مع الكاتب في العديد من النقاط: شخصيتهم كشخصيته مبنية على انسجام غير محكم جداً، إنها حصيلة كل الشخصيات التي يقلدونها، وهو كل الأشخاص التي يخلقها..الممثلون والكتّاب يقدمون انفعالات لا يشعرون بها أبداً في حينها، وهم، إذ يختلون بأنفسهم خارج دائرة الحياة فإنما يصورون هذه الحياة إرضاء لغرائزهم الخلاقة..!
الإيهام هو واقعهم، والجمهور الذي هو في وقت واحد مادتهم والحَكَم عليهم، هو أيضاً ضحية خداعهم. ولأن الإيهام هو واقعهم، يمكنهم أن ينظروا إلى الواقع على أنه إيهام أيضاً!!