عقلانية وموضوعية خطابه تشتاقان إلى نبرة مستقبلية مباشرة في مخاطبة كل الملايين العرب التأكيد على عدم تعارض القومية غير الشوفينية مع الدين والعكس صحيح أمر تمليه ضرورات المرحلة!
لابد من التوقف عند تذكيره بتسمية عبد الناصر سورية بـ «قلب العروبة النابض» لإثارة الحنين إلى حلم التضامن والوحدة
لغزارة ماتضمنه، كلام الرئيس بشار الأسد من مقاطع تستحق التصفيق الحاد والطويل، لم يكن ممكناً إعطاء بعض الفقرات حقها من التوقف عندها. ورغم أن القضايا الداخلية وخاصة الاقتصادية والمعاشية والخدمية قد استحقت أن تستهلك قسماً كبيراً من خطابه، فإن ماقاله في المواضيع الأخرى الخارجية والمصيرية- خاصة حول دور سورية الذي هيأته الأقدار لها فاستحقت العنوان القومي لها، والذي يكاد يصبح اسماً آخر علماً لها- وهو «قلب العروبة النابض» لم يكن بمبادرة من السوريين أنفسهم بل شهد لسورية رئيسها المشترك مع مصر أكبر دولة عربية، الرئيس جمال عبد الناصر: وهي التفاتة تتراوح بين السياق العفوي لكلامه وبين صدفة خير من ميعاد جاء استشهاداً مناسباً في وقته وفي محله، لأنه كما تمنينا منذ يومين أن يكون جزءاً لازماً من وجوب إيقاظ الحنين إلى أيام الوحدة بين القاهرة ودمشق، التي دخلت التاريخ العربي المعاصر، ولن تخرج منه، بخيرها وعثراتها، وحتى بإحباط تجربتها.. وهي أخطاء تتوزع مسؤوليتها بين الغفلة وعدم اليقظة أو الحرص«الاستماتي» على استمرارها ومواجهة الذئاب الدولية التي كانت أنيابها بارزة منذ اللحظة الأولى لقيامها، لتمعن نهشاً وتتربص الدوائر، وافتراض الاعتقاد المبرر، بأنه مهما بلغ الأمر في التربص لها من «يهود الداخل» المستعربين، فإن ماء الحياة وليس الحياء، لن يجف في وجوههم لتضيع فرصة ذهبية عظمى على هذه الأمة العظيمة والعملاقة بتاريخها وتراثها وموقعها وإمكاناتها الهائلة، لدرجة يجيزون فيها لأنفسهم الانقضاض عليها في ليلة ظلماء، رغم إدراكهم تمام الإدراك أن أشرس عدو عنصري متربص على حدودها يتحين الفرص لإزالة كابوس قيامها الجاثم على صدورهم، ولاشك أن المشاهدين قد شعروا- وهم يعدون بالملايين- من مواطني المساحة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج على سبيل اليقين- دون أن يحتاج الأمر إلى التكهن، بموجة كهربائية تسري في عروقهم عندما ذكر الرئيس بشار شهادة الرئيس عبد الناصر في دمشق عندما كان رئيساً لهذه الوحدة مع إقليمها الجنوبي مصر الكنانة الشقيقة الكبرى، فلم يتوقف التصفيق لكلام البشار ليست تحية فقط لسورية بشعبها وجيشها العظيمين اللذين فرضا أول وحدة بين قطرين طليعيين فحسب، بل تحية أيضاً لرمز الوحدة الغائب، الحاضر في الضمائر والذي هفت إليه قلوب الجماهير عند قيام الوحدة وبكت عليه وهو يودعها بخطاب مؤثر عند الانفصال وهو يقول مامعناه: أن قيام تلك الوحدة كان أمراً عظيماً بل هو الأمر الأعظم، ولكن بعد أن وقعت كارثة الانفصال فالمهم أن تبقى سورية!
ولابد للأجيال السورية الشابة المتعاقبة التي ولدت وترعرعت خلال مايقارب نصف قرن بعد الاسقاط المشؤوم لحلم الوحدة الدستورية الكاملة بين بلدين تعودا أن يلتقيا منذ أيام رمسيس في مصر مروراً بزنوبيا ملكة تدمر في سورية وصولاً إلى عهد صلاح الدين الأيوبي الذي خاطبه الماريشال اللنبي وهو في قبره عندما دخل القدس قائلاً: هاقد عدنا ياصلاح الدين، ولكن اللنبي الذي لايسمع باسمه اليوم حتى قومه الإنكليز، وأما صلاح الدين فله مقامان وضريحان يوحدان بين المسجد الأقصى في القدس والجامع الأموي في دمشق ولايستنكف حتى الذين حاربهم وحاربوه من بني قومه فإن أحفادهم يفاخرون به مصداقاً لمقولة الرئيس بشار الأسد الصحيحة بأن العروبة تضم بين جناحيها كل مكونات الوطن العربي حيث نرى العرب يعتبرون صلاح الدين الكردي الأصل، رمزاً لعروبتهم رغم أصوله الكردية التي لم يكن يركز عليها بعد أن حمل «سلطان» العروبة في إهابه، وسبح في بحرها اللجي ووصل به الإلهام القيادي درجة إرسال طبيبه الخاص لمعالجة ريكاردوس «قلب الأسد» الذي كان أحد قادة الجيوش التي جاءت من الغرب الأوروبي إلى المشرق العربي لتحتل«بيت المقدس» وكان من جميل الصدف في أوقات الشدة أن يعوض بها القدر على العرب ظلم الغزاة بحيث نستلهم منها العبرة: عندما أرسل فرنسوا ميتران رئيس فرنسا الأسبق الأسطول الفرنسي إلى أحد موانئنا اللبنانية كمظاهرة بحرية حربية لإخافة الرئيس حافظ الأسد لأنه جاهر باستعداده لمواجهة إسرائيل إذا فكرت بالعدوان، فكان أن قرأ الرئيس الأسد مقالاً كتب في مجلة بيروتية بقلم أحد المقدرين لمزايا هذا القائد العربي السوري الأسد الذي كان يضع صورة «تشبيهية» بمعركة حطين في مقره الرئاسي بقصر المهاجرين، وكان عنوان المقال: ريكاردوس ميتران وصلاح الدين الأسد» وطبعاً هذا العنوان أزعج الذين يريدون أن يحاكموا تاريخ أمتهم محاكمة طائفية، في حين أن الشعب السوري المتفوق على ذاته عبر العصور، والذي جابه تيمورلنك والعديد من جيوش الغزاة، لم يأبه« لغربان الطائفية» في أي عصر من العصور بل هزمهم حتى دون حاجة لقهرهم عسكرياً وميدانياً، بل هزمهم عندما لم ينجحوا في كسره نفسياً ومعنوياً؟ وهذا ما أشار إليه الرئيس الدكتور« طبيب العيون» الذي يحاول أن يشفي مرضى العيون التي لا ترى الصمود الأسطوري لهذا الشعب العظيم.
ولعل من أهم لفتات البشار في خطابه البتار الذي يصح أن يسمى بالخطاب متعدد الفقرات لأن كل فقرة من فقراتها حوت موضوعاً يصح أن تبني عليه أطروحة بما يمكن أن تنتجه المحن من عبر وعظات لمن هو جدير بأخذ العظات والاعتبار بها، وعندما يقول بأن المحن رغم أثمانها الباهظة كانت مفيدة لكشف الأقنعة وتعرية المنافقين المحليين والدوليين ولدرجة نصح فيها ما لم تنسه العرب من دروس الدهر المليئة بالحكمة حين تقول إحدى هذه الحكم على لسان أحد الشعراء:
جزى الله الشدائد كل خير
وإن كانت تغصصني بريقي
فلقد عرفت بها عدوي من صديقي!
كما يذكرنا ذلك بحكمة قالها رسول الإسلام بعد سنوات مرت على معركة «جبل أحد» التي كاد هو نفسه أن يتعرض فيها حتى للاستشهاد وأصيب خلالها بجراح والتي قتل فيها عمه«سيد شهداء أحد» حمزة بن عبد المطلب قائلاً: أحد جبل يحبنا ونحبه» وعندما سئل من جانب أصحابه: وكيف نحبه ويحبنا يارسول الله نحن الذين كدنا نهزم فيه وكانت حياتك في خطر قال: « لقد تعلمنا منه عدم الغفلة وأخذ الحذر»..
وهكذا فإن سورية رغم هول المحنة التي مرت عليها في هذه المرحلة ليست أرضاً سائبة لمن يستبيحها والذي بلغ من الحماقة درجة جعلها في عداد الأرض المستباحة للمستبيحين أو نهباً للذئاب الدولية المتربصة لافتراسها وحتى لو وقعت في كمين محكم تعاونت على نصبه لها جهات غبية رغم ادعائها الفطنة والذكاء ، والذين ظنوا أنهم بحشد المحطات الفضائية المسعورة قد جعلوا دمشق تفقد صوابها ولم يبق أمامهم إلا إعداد مراسم تغييبها عن ساحاتها العربية أو مواراتها الثرى، فكان لسان حالها ما قاله« أخو العرب الأقحاح» غير المستعربين:
كم قد دفنت وواروا في الثرى جسدي
ثم انتفضت فزال القبر والكفن!
بل لعل من محاسن ماورد في« خطاب الثلاثاء» هو ما يتلخص بأن الذين يريدون إخراج سورية من الجامعة العربية قد جعلوها أكثر تحرراً من أثقال تقاعسهم بحق القضايا القومية الكبرى، ولكن إذا كان لابد من إخر اج أحد وطرده من الجامعة فهم هؤلاء الذين كتبوا لأنفسهم قراراً« يقينياً» وليس قراراً ظنياً بأنه لا تربطهم بالعرب الحقيقيين غير هذا« اللباس العربي» الذي يخلعونه عندما يستضيفون ليفني، أو عندما يستقبلهم مسؤول أميركي يريد أن يرى صورة « أجسادهم الضخمة» على حقيقتها والذين يصح فيهم قول الشاعر في وصف أحد ضخام الجثة وفارغي الرؤوس والضمائر:
جثث ضخام وأحلام العصافير!
يبقى أن نشير بالقول : صحيح أن من ميزات الرئيس بشار أنه عندما يتكلم يبدو رئيساً محاضراً ومحللاً ويكاد يكون استاذاً أكاديمياً، ويكون القاؤه- حتى لو كان بليغاً- فإن الجماهير رغم سعادتها بأن يكون لها رئيس مثقف ويصلح- في نظرها - أن يكون رئيساً لأهم بلد في العالم الخارجي وهو أمر تشارك في تقديره جماهير المواطنين ولكن كلماته عميقة الدلالات والتي لم يتخل فيها عن العقلانية وعدم الاندفاع العاطفي، لابد لها أن « تطعَّم» بنبرة خطابية تحرك الكوامن الشعبية في مشرق الوطن العربي ومغربة ، ليس من قبيل التخلي عن الأسلوب المترفع والنبيل، بل من باب وصف الأمور كما هي وتسميتها بأسمائها وهذه«العصابات» التي تعيث في الأرض فساداً بدلاً من أن نسميها«المجموعات المسلحة» وبذلك ننعتها بماهي فيه من توحش وإجرام ووضاعة الالتحاق بالعدو ووضع خدماتها تحت تصرفه، بأن « التهذيب» ضروري لتزكية النفس ولكن الموضوعية نفسها تقتضي أن نسمي أسوأ الناس بما هم فيه ونذكرهم بقبح صفاتهم ولو من باب إعادة التأهيل الأخلاقي وحتى الدين الذي ينهي عن فاحش القول أجدر بأن يوصف بأقبح النعوت التي يستحقها الظالم من جانب المظلوم ونص الآية الكريمة يقول بالحرف:« لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم».
ومن جميل المفارقات أننا بعد أن انهينا الكلام عن استحسان الجماهير للنبرة القوية في حالات معينة جاء من ينادينا أن نشهد تلبية هذه الأمنية على لسان الرئيس بشار نفسه وهو يشفع خطابه في اليوم التالي بمواجهة الجماهير المحتشدة بكثافة في ساحة الأمويين وألقى فيها خطاباً عفوياً قوياً مع دعاء الجماهير بأن يحفظه من كل أذى عندما يواجه ببدنه الجماهير المحتشدة.« والله خير حافظاً».