تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


قلب أبي جاسم

ساخرة
الخميس 20-10-2011
معتصم دالاتي

كان أبو جاسم يعمل حمالاً، رجل في الخامسة والأربعين، وإن بدت هيئته تدل على أنه أكبر من ذلك بكثير، ذلك أن مأساة تفصح عن نفسها تسكن ملامح وجهه القاسي .

وهو رجل قوي يستطيع أن يرفع من الأحمال مالا يقدر عليه اثنان أو ثلاثة حمالين مجتمعين.‏

ويجلس ساهماً، شارد الذهن على أحد الأرصفة في سوق الفيصل بحمص، وهذا هو مركز عمله، يطلب أحياناً كوباً من الشاي ... من بائع الشاي المتجول، أو يضيفه به أحدهم فيتقبله بامتنان صامت، قليلاً مايتباسط مع أحد في الحديث، مع أن أهل السوق يعرفون قصته التي كان يروي أجزاء منها باقتضاب لهذا أو ذاك دون أن يسردها كاملة، إلا أن أجزاء القصة قد اكتملت لديهم حين تعاونوا على جمع تلك الأجزاء.‏

في زمن أبو جاسم لم تكن الطراطير أو السوزوكي معروفة، وكان بعض الحمالين يستعملون الحمار لتلك المهمة، وبعضهم يمتلك الطنبر. وهو عربة خشبية يجرها حمار أو بغل.‏

والبعض كان يعتمد على قوة جسمه وعضلاته وكان أبو جاسم واحداً من هؤلاء.‏

وحين يأتيه الزبون ليتفق معه على الحمل والمكان المراد إيصاله إليه، يستمع أبو جاسم بهدوء ثم يطلب المبلغ الذي يقدره لهذه المهمة، وكانت المساومة على المبلغ حالة مألوفة لدى الجميع وغالباً ما كان أبو جاسم يقبل بأي مبلغ كان، حيث كانت الفرنكات وأجزاء الليرة سائدة آنذاك لتلك الخدمات.‏

كان أبو جاسم يأخذ وضعية القرفصاء، حيث يعطي ظهره للحمل إن كان ثقيلاً ثم يشده جيداً ثم يتناول الحبل من طرفيه بيديه الاثنتين، ثم يشده جيداً، بعد ذلك يربط طرفيه ببعضهما ويسند على جبهتيه ويهب واقفاً ليبدأ مسيرته.‏

وإليكم أيها الأفاضل قصة أبو جاسم فقصته تستحق الرواية،‏

لم يفت يوم واحد على أبو جاسم دون أن يزور أخته التي كانت في المشفى الحكومي لإجراء عملية جراحية، حيث تعرف هناك على مريضة شابة ترقد إلى جانب سرير أخته تلك وهي تعاني من مرض عضال.‏

وكان يبدو على ملامح وجهها أثر جمال غطاه المرض المزمن، وبما يحمل أبو جاسم في قلبه من إنسانية كبيرة، بدأ اهتمامه بها، فمرة يحمل لها العصير، ومرة الفواكه وأخرى يشتهي لها الطعام، ثم بدأ يكتشف أن بعض الأدوية التي تحتاجها غير متوفرة في المشفى فكان يأخذ الوصفة الطبية ليأتيها بالدواء المفقود.‏

وقد فهم من بعض الممرضات أنها بحاجة إلى زمن طويل من العلاج، كما أنها مقطوعة من شجرة ولا أحد يأتي لزيارتها، فلم ينقطع أبو جاسم عن زيارتها في المشفى بعد أن غادرته شقيقته معافاة.‏

أخذ أبو جاسم مع الأيام يشعر بمسؤوليته حيال المريضة الشابة ولعل عواطفه أيضاً كان لها أثر في الموضوع وقد عرف أن بقاءها في المشفى ليس مجدياً وأن الأدوية التي يأتيها بها هي الوسيلة التي ربما يكون لها دور في الشفاء إضافة إلى الغذاء الجيد، وليس طعام المستشفيات.‏

فاتحها أبو جاسم في الموضوع، وقد رأى أن يعقد عليها قرانه لتستطيع السكن معه في منزله، ولأن الامتنان يحمل شيئاً من المشاعر فقد وافقته، وتم الأمر.‏

بعد أشهر قليلة أخذت الصبية تتماثل للشفاء وبدأت النضارة تعود إليها، لتستعيد جمالاً رائعاً كان المرض قد غيبه، ولعل أبو جاسم آنذاك لم يكن ليحسد شاه إيران أو امبراطور الحبشة فالسعادة كانت ترفرف عليه مع زوجة رائعة بعد أن عافاها الله.‏

زمن مر على أبو جاسم حين أخذ يلاحظ تغيراً يصاحبه بعض النفور من قبل زوجته الجميلة التي أصبحت مستاءة من شكل ومهنة زوجها الحمال إلى أن ضبطها متلبسة في غرفة النوم مع شاب من الجوار فما كان منه إلا أن غادر منزله بما فيه هائماً على وجهه ولم يقترب بعد ذلك من الحي أو المنزل أو يحاول رؤية زوجته التي أعاد إليها الحياة.‏

سأله مرة أحدهم: كم من الزمن مضى على تلك الحادثة؟‏

أجاب: تسع سنوات ألح السائل بالسؤال: أولا تفكر بالعودة لترى زوجتك أو لتستعيد منزلك، فهو ملك لك؟‏

أجاب: لا.. عاد الرجل ليسأل: هل أنت مستعد للتضحية ثانية لو التقيت بإمرأة أخرى، أم أنك لن تلدغ من جحر مرتين؟ ودون ترد أجاب أبو سالم: لن أتردد بالتضحية....‏

ولعله كان يود القول إن القلب الكبير المفعم بالحب أو المشرعة نوافذه على العالم، لا يستطيع كائن أن يوصد فيه تلك الأبواب.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية