تعد الأزمة في سورية واحدة من الساحات التي مثلت اختباراً للتوجهات الروسية الجديدة، منذ عودة الرئيس فلاديمير بوتين إلى رئاسة الاتحاد الروسي في آذار 2012، ذلك أن هناك حركة روسية على المستوى الدولي، أبرز ملامحها استعادة بعض قواعد الاشتباك السياسي والدبلوماسي والعسكري،
كما سعت روسيا إلى تعقب المشهد الدولي على اثر حالة الفوضى التي ضربت النظام الدولي بعد انفراد الولايات المتحدة بتوجيه تفاعلاته، ورافقت تعقبها هذا بحراك فاعل وبالأخص في التفاعلات ذات الطابع الصراعي، ما أعطى روسيا مكانة عظمى جديدة في نظام عالمي جديد.
أكدت روسيا مبدأ (عدم التدخل) في شؤون الدول فدعمت الاستقرار والشرعية الدولية في الدول الصديقة لها، واعتبرت مكافحة الإرهاب أولوية على تخوم روسيا الاتحادية وخارج حدودها، وشرعت تستخدم القوة العسكرية المباشرة لحماية الأهداف والمصالح الحيوية خارج نطاق الأمن القومي المباشر في مناطق القوقاز وآسيا الوسطى أو دول شرق أوروبا وصولاً إلى الشرق الأوسط.
في الواقع لا يمكن الحكم على الأداء العسكري الروسي في سورية انطلاقاً من البدايات، بيد أنه ومنذ اللحظة الأولى عرى وبوضوح كل ادعاءات الإدارة الأميركية، وخططها لمحاربة الإرهاب، وأثبتت بصورة قاطعة أن هذا الإرهاب ليس صنيعة الولايات المتحدة وحلفائها فحسب، وإنما هو الأداة المباشرة والجيش السري لتنفيذ حربها الناعمة على دول المنطقة وربما العالم، وأن الولولة والصراخ والتصريحات النارية والخطابات الاسترحامية لاوركسترا التبعية، بدأت قبل البدء بالعمليات الفعلية على الأرض. وأن القول بأن التدخل الروسي سيستدعي المزيد من الإرهاب لم يكن إلا تبريراً مسبقاً لزج قوى إرهابية إضافية ومحاولة أخيرة لتحقيق توازن في غير محله وأوانه.
لقد أجهض الدخول الروسي العسكري على خط الأزمة في سورية الحرب الناعمة غير المكلفة بشرياً ومادياً للولايات المتحدة ووضعها أمام خيارات جديدة. إما التدخل العسكري المباشر وهي غير قادرة على تحمل هذا التدخل، انطلاقاً من وضعها الاقتصادي المتردي من جهة ونظراً لعدم قدرتها على صوغ استراتيجية بديلة، وإما القبول بالوضع الراهن على قاعدة حرب باردة ذات وتيرة خفيفة لمشاغلة الوجود الروسي في المنطقة. غير أن الخيار الأخير أيضاً أفسح المجال للروسي العازم على إنهائه بسرعة لتركيز قواه خارج الجدار الصاروخي الأميركي، كما سمح للصين بكسر جدار التطويق العسكري الأميركي لها تمهيداً لضربها اقتصادياً وعسكرياً من الداخل، ربما هذا يفسر إرسال قوى بحرية صينية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
فالدخول العسكري الروسي إلى سورية ومن ثم إلى العراق لاحقاً أسس لحلف عسكري إقليمي دولي رباعي يمتد من إيران إلى الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط، هذا الحلف يقف سداً منيعاً في وجه حلف النهب على المسرح الاستراتيجي الوسيط، وعليه شهدنا حراكاً أكثر سخونة وربما أكثر فعالية على الساحتين العراقية واللبنانية.
اليوم.. يبدو أن التدرج التصاعدي في مقاربة بوتين وأركان الكرملين للملف السوري مكَّن روسيا من الإمساك بموقع القادة في إدارته دولياً وإقليمياً بعدما نجح بوتين في إجراء اختبارات عديدة للولايات المتحدة الأميركية وبعض دول المنطقة كالسعودية وتركيا، ليصل إلى خلاصة مفادها أن صناع السياسة في الغرب يقولون الكثير ولا يلتزمون بأقوالهم أو ليست لديهم القدرة على تحويلها إلى أفعال.
الانكفاء الأميركي والغربي عموماً والذي تحول إلى عجز مزمن، وقدرة روسيا على اصطياد الفرص المواتية، دفعا بالتأكيد واشنطن وحلفاءها الإقليميين إلى القبول بعروض موسكو البحث في أطروحات ولو ظرفية تبقيهم شريكاً في مسار الحلول الممكنة أو المفترضة في سورية، أما البديل فهو الانتظار السلبي والرهان على ما يروجون له من أفخاخ مؤلمة تنتظر روسيا في الميدان.
مما لا شك فيه أن سورية ساحة مهمة لاختبار التوجه الروسي، وقد كشفت الأزمة حتى الآن عن نجاح روسيا في التمسك بمواقفها، إذ اتخذت روسيا منذ اندلاع الأزمة في سورية موقفاً سياسياً قاطعاً يرفض التدخل في سورية عن طريق القوة، وأخذت على عاتقها تقديم دعم كبير لسورية شمل الدعم المادي والعسكري والسياسي والدبلوماسي، وذلك لتعزيز قدرة الدولية السورية على مواجهة الضغوطات الدولية والإقليمية، واتخذ هذا الدعم الصورة العلنية بما يحمله ذلك من دلالات، ووفرت روسيا للدولة السورية مظلة حماية دولية من جميع محاولات إدراج الأزمة في سورية في إطار عملية دولية تجيز التدخل المباشر، بدا هذا في الاستخدام المكثف لروسيا لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن.
ولا تفصل الحركة الروسية تجاه سورية من جهة أخرى عن حركة متصلة بالصراع الروسي الأميركي في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وشرق أوروبا، ومن ثم يبدو اتساع التحرك الروسي تجاه سورية جزءاً من المعركة الحقيقية بين هذين الطرفين.
لقد احتلت سورية مكانة ثابتة ومهمة في المنطقة كعنصر مؤثر في العلاقات الإقليمية. وانعكس ذلك في علاقاتها بالقوى الدولية التي ترتبط بمصالح وعلاقات استراتيجية في المنطقة.
الخلاصة.. تمكنت روسيا من فرض وجهة نظرها في سورية، وتمكنت عبر تكتيكات مختلفة من نقل الصراع في سورية من مرحلة توهم تدمير الدولة السورية على غرار نماذج تونس ومصر وليبيا، إلى مرحلة الحرب على الإرهاب، ثم إلى أهمية الجيش العربي السوري في مواجهته نظراً لاستبسال الجيش وتضحياته في دفع روسيا إلى فرض وجهة نظرها على المجتمع الدولي، مضافاً إلى ذلك الالتفاف الشعبي حول قيادة الرئيس بشار الأسد.