تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مختارات من شعر ألكسندر بلوك

ملحق ثقافي
2018/10/30
د. ثائر زين الدين

عاشَ ألكسندر بلوك وأبدَعَ في البرزخِ ما بينَ عالمين، في مرحلةِ التحضير لثورة أكتوبر 1917، ومن ثمَّ تحقيقها. لقد كان آخر الشعراء الكبار القُدامى ما قبلَ روسيا الأكتوبريّة!

إنّه - كما عَبّر ماياكوفسكي - شاعر قبل كل شيء! فقد تراجَعَ إبداعُهُ في المسرحِ والكتابةِ الأدبيّة والفلسفة إلى المرتبةِ الثانية أمام نتاجِهِ الشعري الباهر.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ولِدَ ألكسندر بلوك عام 1880، وتوفي عام 1921. عَرَفَ المتابعونَ نصوصَهُ الشعرية الأولى وهو في العشرين من عمره تقريباً، واستوى شاعِراً لافت الموهبة على أبواب ثورة 1905، ونضجت تجربتُهُ وأزهرت، واكتسبَ شُهرَةً واسعة في مرحلةِ النضالاتِ التحرريّة، والحرب العالمية الأولى (1907-1916) ثُمّ ذاعَ صيتُهُ، ونالَ شُهرةً عالمية واسعة بعد ثورةِ أكتوبر، ولاسيّما بعد نشرِهِ قصيدتَهُ «اثنا عشر - 1918»، التي سبّبت قطيعةً ما بينَهُ وبين أصدقائِهِ من الشعراء الرمزيين، فقد كانت الخطوة الحادة التي نقلت بلوك - كما يرون- إلى الضفّة الأخرى، ضفّةِ الثورة، يوم أعلنت الشاعِرة زينائيدا غيبوس إن بلوك -»الابن الضال» خَسِرَ روحَهُ بصورةٍ تامة، وأطبقت عليها راحةُ الشيطان، لكن المسألة لم تكن على هذهِ الصورة بالتأكيد، فشاعر الرمزيّة الروسيّة الأوّل كان مسكوناً بتساؤلاتٍ معنويّةٍ وفنيّةٍ مؤرِّقةٍ حولَ العلاقة ما بين الشاعِرِ والشعب، ما بين الإنتلجَنِسيا وقوى التغيير الصاعدة، ما بين عناصر الكونِ والطبيعةِ من جهة والثقافةِ من جهةٍ أخرى. كانَ في رحلةِ بحثٍ دائمة خارجيّة وباطنيّة.. كان -على الأرحَج- يقتربُ شيئاً فشيئاً من الواقع الأرضي، رغم كل تلك الرمزيّة والصوفيّة المتغلغلة في أعماقه، كان يحاولُ تجاوز تلك الهوّة التي تفصِلُ المثقّف الروسي المنغلق على ذاتِه، وعلى اهتماماتِهِ المصيريّة الخاصة، عن الشعب الروسي المتعطّش يومذاك إلى حياةٍ حُرّةٍ.‏

إلى أن يصل بلوك نهاية المطاف إلى تلكَ النقطة التي تتعانق فيها روحُهُ - روحُ الشاعِر الرمزي- مع الروح الشعبيّة.‏

إن الكسندر بلوك- كما عَبّر ذات يوم الشاعر حسب الشيخ جعفر- «شاعر الروح التراجيدي في تعطّشِهِ المرير إلى الوجود الإنساني المتكامل.. وفي بحثِهِ الدائب عن الجماليّة الغريبة في عصرِهِ العاتي، عصر الألم والتحوّلات».‏

يُسعدني أن أقدِّمَ فيما يأتي إضمامة من قصائِدِهِ التي اخترتُها من سنواتٍ مختلفة وبينها واحدة عدّها النقّادُ من أهم إنتاجِهِ الشعري- «المجهولة» وهي تنتمي إلى المرحلة الثانية من إبداعه.‏

المختارات شعريّة‏

ليـل‏

أعرفُ وجهكِ جيّداً،‏

لكأنّكِ عشتِ معي.‏

في الزياراتِ، في الشارعِ، في البيت‏

يتراءى لي بروفيلُ وجهكِ الرقيق.‏

خطواتكِ ترنُّ خلفي.‏

حيثما دخلتُ أنتِ هناك.‏

ألستِ أنتِ من يتبعني‏

بخفّينِ ناعمين في الليالي؟‏

ألستِ أنتِ من تنزلقين مُحاذيةً‏

حالما أُطلُّ من الباب،‏

شبهُ هوائيّة، وغير مرئيّة؛‏

تماماً كرؤيةٍ في حلم؟‏

أُفكِّرُ مراراً ألستِ أنتِ‏

من كنتِ تجلسين صامتةً فوق القبر،‏

في تلكَ العتمةِ خلفَ البيدر،‏

وعلى رأسكِ منديلُكِ الدمّور؟‏

اتجهتُ نحوكِ – كنتِ تجلسين،‏

هممتُ بالوصولِ إليكِ – فغادرتِ،‏

انحدرتِ نحو النهر وغنّيتِ..‏

وكان في صوتك أجراسٌ‏

هي صدىً لعزيف المساء…‏

وبكيتُ، وانتظرتُ برهبة..‏

لكن صوتكِ العذب راح يخمد،‏

خلف أصواتِ المساء..‏

ولبرهةٍ أخرى – ما من جواب،‏

وهاهو منديلكِ يلمعُ في النهر..‏

لكنني أعلمُ بحزن، أننا سنلتقي‏

في مكانٍ ما من جديد.‏

1 آب 1908‏

**‏

(................)‏

ليلٌ، شارعٌ، مصباحٌ، صيدليّة.‏

ضوءٌ موحش لا معنى له.‏

عِشْ أيضاً رُبعَ قرنٍ -‏

ما من شيءٍ سيتغيّر - لا نهايةَ!‏

تموت – تبدأُ ثانيةً من البداية،‏

ويتكرّرُ كُلُّ شيءٍ، كما في الماضي،‏

ليل، أمواجُ القناةِ المتجمّدة،‏

صيدليّة، شارعٌ، مصباح‏

10 أوكتوبر 1912‏

**‏

المجهولة‏

في المساءاتِ فوق المطاعمِ‏

هواءٌ حارٌ، غامضٌ ووحشي،‏

ويسوقُ صرخاتِ السكارى‏

روحٌ ربيعيٌ وخيم.‏

وفي البعيد، فوقَ غبار الأزقّة‏

فوق كآبةِ الأكواخ الريفيَّة‏

يتذهَّبُ بخفوتٍ قرصُ كعكةٍ.‏

ويعلو بكاءُ طفل.‏

وفي كل أمسيةٍ، خلفَ عوارض الطُرق‏

قبعاتٌ مائلة، رجالٌ فكهونَ مُحنّكون‏

يتنزهونَ مع سيداتهم، عبر الأقنية.‏

وفوقَ البُحيرة تصرُّ مضاجِعُ المجاذيف‏

وتتعالى صيحاتُ نساء،‏

وفي السماءِ يُصعِّرُ القمرُ وجهَهُ‏

مللاً من تكرارِ ما يراه!‏

وفي كُلِّ أمسية صديقٌ وحيدٌ‏

يرتَسِمُ على صفحةِ كأسي‏

وقد تعتعتهُ خمرةٌ سريّةٌ قابضة‏

فغدا مثلي مُسالِماً ومشدوهاً.‏

وقريباً عند الطاولاتِ المجاورة‏

يتردّدُ خدمٌ ناعسون،‏

وسكارى بعيون أرانبٍ‏

يصرخون: «الحقيقةُ في الخمر(1)»‏

وفي ساعةٍ مُحدّدةٍ كُلّ أمسية‏

(أم أنني أحلمُ بذلكَ فحسب)‏

يلوحُ في ضباب النافذة‏

قدٌّ أنثويٌّ يرفُلُ في الحرير.‏

تعبُرُ ببطءٍ بين السكارى‏

وحيدةً دوماً من دونِ رفيق.‏

تجلسُ إلى النافذة،‏

وهي تتضوّعُ عطراً وضباباً.‏

تفوحُ معتقداتٌ قديمةٌ‏

من حريرها الهفهاف‏

ويعلو قبّعتها ريشٌ حزين‏

ويدُها الصغيرة مزدانة الخواتم.‏

مُقيّداً بقرابةٍ غريبة‏

أحدّقُ عَبرَ نقابٍ غامقٍ‏

فأرى شاطئاً خَلّاباً..‏

وامتداداً فاتناً..‏

أسرارٌ غامضةٌ عُهدت إلي،‏

وقُدِّمت لي شمسٌ ما‏

واخترقت حنايا روحي كلّها‏

خَمْرةٌ لاذعة.‏

ريشُ النعامةِ المحني‏

يتأرجَحُ في دماغي‏

عينان زرقاوان عميقتان‏

تُزهران في الضفّة البعيدة.‏

في روحي كنزٌ خبيء‏

ومفتاحُهُ في عُهدتي أنا وحدي.‏

مُحقٌ أنتَ أيّها الأشوَهُ السكران،‏

أنا أعلم: الحقيقةُ في الخمر.‏

24 نيسان 1906‏

**‏

أوزركي .‏

(................)‏

أصطادُ يديكِ الباردتين المُرتعشتين،‏

تَشحُبُ في العتمةِ ملامِحُ مألوفة.‏

أنتِ لي، كُلُّكِ لي – حتى فراق الغد،‏

لا شيءَ يعنيني – فحتَّى الصباح أنت معي.‏

الكلماتُ الأخيرةُ توشوشينها، مُثْقلةً،‏

دونَ توقفٍ، في حُلمٍ صامت.‏

الشمعةُ الحزينةُ، رُغماً عنها، تحترقُ حتى النهاية‏

فتغمُرُنا العتمةُ – ولكنكِ معي، أنتِ فيَّ.‏

مَرّت أعوامٌ، وأنتِ – لي، أعلمُ،‏

أصطادُ لحظاتٍ أخّاذة، وأنا أتأمّلُ ملامِحكِ،‏

وأكرّرُ الكلماتِ الحارّة بصورةٍ مُبْهَمةٍ‏

حتى يوم غد أنتِ – لي..‏

معي حتى الصباح .. أنتِ..‏

وحـدَكِ‏

وحدك أنتِ، أنتِ وحدكِ‏

أحبُّكِ، وأُهديكِ السعادةَ يا مليكتي،‏

إليكِ أيَّتُها الرائعة الفتيّة‏

أُقدِّمُ أجمَلَ صفحاتِ حياتي.‏

لا الصديقُ المخلصُ، لا الأخُ، لا الابنُ‏

أنت وحدكِ تستطيعينَ أن تفهمي‏

كآبةَ الروحِ الغامضةَ.‏

أنتِ، أنتِ وحدكِ، آه يا لهفي‏

يا حبّي، يا مليكتي!‏

في عتمة الليلِ، روحك‏

تلتمعُ كوميضٍ بعيد.‏

(...........)‏

موحوداً، أجيءُ إليكِ،‏

مسحوراً بنيران الحبِّ.‏

أنتِ تُنجِّمين –لا تنادني..-‏

وأنا منذ زمنٍ بعيدٍ أفعلُ مثلك.‏

تحت ثقلِ أعباءِ السنين،‏

كنتُ أفرُّ إلى السِحر وحدَه،‏

وها أنا ثانيةً أسحركِ،‏

لكن الجواب مبهمٌ و غامضٌ.‏

أيامٌ مأسورةٌ بالسحرِ،‏

و أنا أُعلِّلُ نفسي سنواتٍ- لا تناديـ..-‏

فهلْ تنطفئُ قريباً‏

نيرانُ الحبِّ المسحورِ المُعتِم؟‏

1 حزيران1901/شاخماتوفو‏

**‏

هناك كان ثمّةَ زهرة‏

عطرة، لا مثيل لها‏

جوكوفسكي‏

أنا أطمَحُ إلى إرادةٍ باذخةِ الزهو،‏

أحلمُ ببلادٍ رائعة،‏

حيث تشعُرُ بالرضى في السهوب الواسعةِ النقيّة‏

كما في حُلمٍ رائع،‏

هناكَ يُزهِرُ البرسيم الغذائي‏

والعنبرُ البريء،‏

ويُسْمَعُ أبديّاً الحفيفُ الناعمُ:‏

العجلاتُ تنطلق.. والطريقُ طويل‏

شيءٌ واحدٌ هناكَ في المحيط،‏

الأعشابُ وحدها تنحني..‏

أنت لا تَرى هُناك، في الضباب‏

أما أنا فقد رأيت - وسأقطف!‏

7 شباط 1898/ ديدوفا‏

**‏

إنهم يقرؤنَ الشعر‏

انظري: لقد تداخلتِ الصفحاتُ جميعُها‏

حينما أضاءت عيناكِ.‏

جناحا طائرٍ ثلجيٍ ضخمانِ‏

لفّا دماغي بعاصفةٍ ثلجيّة.‏

كم كانت أحاديثُ الأقنعة غريبة!‏

هل فَهِمْتِها؟- لا أَعلم!!‏

أنت تعرفين تماماً: في الكتبِ- تجدينَ الحكايات‏

وفي الحياةِ- القصَصَ فحسب!‏

لكن بالنسبةِ لي لا يمكنُ الفَصْلُ‏

ما بَينكِ- وبين الليل، وعتمةِ النهر،‏

والدخان المتجمّد،‏

وإيقاعِ النيران الفرحة.‏

لا تكوني قاسيةً معي‏

ولا تشاكسيني بالقناع.‏

وفي الذاكرةِ المظلمةِ لا تلمسي‏

ناراً – مُخيفةً – غريبةً.‏

10 كانون ثاني 1907‏

**‏

في المطعم‏

لن أنسى أبداً (كانَ ذلكَ المساءُ‏

أم لم يكن): كيفَ احترقَ شحوبُ السماءِ،‏

بلهيبِ الغسق، وانزاحَ،‏

وفي الغروبِ الأصفرِ- انتشرتِ القناديل.‏

جلستُ إلى النافذةِ في القاعةِ الملأى.‏

وفي مكانٍ ما غَنّت أقواسُ الكمنجاتِ عن الحُبِّ،‏

أرسلتُ لك وردةً سوداءَ في قدحٍ‏

من نبيذآي(2) الذهبي كسماءِ،‏

نظرتِ. قابلتُ نظرتكِ المُتعالية‏

بجرأةٍ وحيرة، وانحنيتُ لك.‏

قُلتِ بحدّةٍ مقصودةٍ،‏

متوجهةً إلى رفيقكِ: «وهذا مُتيّمٌ بي».‏

وفي اللحظةِ نفسها أجابتِ الأوتار راعدةً،‏

وغنَّت الأقواس بشبقٍ،‏

ولكنّكِ كنتِ معي باستخفافِ الفتوَّةِ كُلّه،‏

وبارتِعاش ِ يدكِ غير الخَفيّ.‏

واندفعتِ اندفاعةَ طائرٍ مُجفَّلٍ،‏

وعبرتِ خفيفةً كحلمي،‏

فضاعَ عطرُكِ، ونعست أهدابُكِ‏

ووشوشَ حريرُكِ مُضطَرِباً.‏

ورميت لي من أعماق المرايا نظرة،‏

رميتها صارخةً: «التقطها..»‏

وخشخش العقدُ، و تلوَّتُ الغجريّةُ،‏

وناحت للشفق(3) عن الحب.‏

19 / نيسان / 1910‏

**‏

آه، أرغبُ بجنون أن أعيشَ:‏

اليابسةُ كُلّها – أجعَلُها خالدةً،‏

ومن لا خصوصيّةَ لهُ – أجعلُهُ إنساناً،‏

وما لم يتحقق – مُحقَّقاً!‏

فليخنق حياتي حُلمٌ ثقيل،‏

ولتنقطع أنفاسي في ذلك الحُلم -‏

فقد يتحدّثُ عَنّيَ في قادمِ الأيّام‏

شابٌ مرحٌ فيقول:‏

سنسامِحُهُ على تجهّمِهِ – وهل‏

كان ذلك التهجّم مُحرِّكهُ المَخْفيّ؟!‏

إنّهُ بالكامِلِ – طيبةُ الطفولةِ وضياؤها‏

إنّهُ بالكامِلِ – حُريّة وعيد.‏

5 شباط 1914‏

(1) جاءت العبارة في النص باللغة اللاتينيّة: « In vino veritas!»‏

(2) نوعٌ من النبيذ الفرنسي الفاخر تعود صناعته إلى القرن السابع عشر، وبدأ إنتاجه في روسيا في القرن الثامن عشر.‏

(3) يرجى أن نلاحظ أن زمن القصيدة يمتد بين الغسق والشفق.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية