تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الجسور حاجة وفن ورمز

ملحق ثقافي
2018/10/30
د. محمود شاهين

تكتنز عبارة (جسور) على معاني ودلالات عديدة، منها ما هو مباشر ويعني brides أي الجسور الأسمنتيّة أو المعدنيّة التي تقام بين ضفتي نهر، أو شارع، أو هضبتين، أو جبلين،

أو تقاطع الطرقات، ومنها ما هو غير مباشر، يرمز إلى العلاقات الطيبة التي تجمع بين الناس داخل البلد، أو بين شعب وآخر فيقال بأن جسور محبة، أو جسور تلاقي، أو جسور تواصل، أو جسور تاريخيّة، أو جسور تفاهم، تجمع بين هذا الشعب وذاك، أو بين هذه الأمة وتلك.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

لمحة تاريخيّة‏‏

السؤال الذي يفرض وجوده هنا: من أين جاءت فكرة الجسور هذه؟ يُحكى بأن وقوع جزء من شجرة على طرفي جدول هو الذي أوحى للإنسان بفكرة إنشاء جسور أو معابر عبر العوائق والموانع المائيّة كالمسيلات والأنهار والقنوات، والوديان العميقة وتقاطع الطرق.. وغيرها.‏‏

بدأت الجسور بدائية السمة، نُفذت لأول مرة من النباتات المرنة والحبال. ومع تطور وسائل الإنتاج، وازدياد الحاجة لها، من أجل تبادل السلع بين الناس في البلد الواحد، أو بينهم وبين شعوب البلدان الأخرى، أصبح شق الطرق ضرورة حياتيّة، لكن هذه العمليّة، واجهتها صعوبات جمة منها الأنهار والوديان، الأمر الذي تطلب تغطية جزء منها بالجسور التي أخذت في البداية شكل القناطر المنفذة من الحجر والخشب والمعادن، ثم من الخرسانة المسلحة بالتسليح العادي وبالتسليح مسبق الجهد.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

خامات طبيعيّة‏‏

لا زالت تنتشر في سوريّة، تحت الطرقات، وفوق السواقي والأنهار، جسور منفذة من الحجر على هيئة أقواس مترابطة، مدروسة في شكلها ومقدرتها على تحمل الأوزان، وقد جاءتنا من التراث الروماني، لذلك تدعى بـ (قناطر رومانيّة) أو (أقنية رومانيّة) منفذة في الغالب من الحجارة، حيث لم يكن الأسمنت المسلح قد وجد بعد، وقد أوحى هذا الأسلوب الهندسي الجميل والمتميز والمؤدي لمهام عديدة، للعديد من المهندسين المعاصرين، بإشادة أبنية كاملة، ومن عدة طبقات، بأسلوب القناطر وخصائصها الهندسيّة، دون استخدام الاسمنت المسلح، في الأسطح وحواملها.‏‏

بعدها ظهرت الجسور والمعابر المنفذة من جذوع الشجر، ثم من الخشب المقصوص والمشدود بعضه إلى بعض بوسائط مختلفة، ومنها جسر في روما شُيّد عام 630 قبل الميلاد. وجسر عائم على البوسفور نفذ العام 515، وآخر على نهر الدانوب.. وغيرها.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

في البداية، اقتصرت وظيفة هذه الجسور، على تأمين العبور الآمن للمشاة، ثم لهم ولدوابهم وعرباتهم، وفيما بعد لسياراتهم وقطاراتهم، لهذا روعي فيها المتانة، وتحمل الأثقال وعوامل الجو المختلفة، كالأمطار والرياح وفيضانات الأنهار والسواقي، ولأنها صارت تصافح عيون الناس في الذهاب والإياب، سرعان ما تنبه مصمموها، إلى ضرورة إضافة خصيصة جديدة إليها هي: الرشاقة وجمال المظهر، وتوافقها مع محيطها الطبيعي أو المعماري، إذ لم يعد كافياً أن تؤدي مهمة المعبر الآمن المدروس هندسياً، فأضيفت إليها وظيفة شكليّة وجماليّة، تبدت في طرز تصاميمها، ثم لاحقاً في تنوع مواد وخامات إشادتها، حيث دخلت الحجارة الكبيرة والثقيلة إلى وسائط بنائها، وقد بقيت الجسور الحجريّة على حالتها من الضخامة والوزن حتى منتصف القرن الرابع عشر، حيث أخذت تظهر جسور حجريّة جديدة، أكثر رشاقةً، وأخف وزناً، وأصغر حجماً، وأول ما ظهرت في إيطاليا وفرنسا. في القرن التاسع عشر، بدأ استخدام المعدن في بناء الجسور، الأمر الذي ساهم في انتشار وتطوير طرائق حساب منشآت الجسور، وعلى الأخص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أصناف وأنواع‏‏

تُقسّم الجسور من حيث الاستخدام إلى جسور طرق سيارات، وجسور سكك حديديّة، وجسور مختلطة، وجسور للمشاة، وجسور لقنوات المياه أو أنابيب الغاز والنفط، وهي إما داخل المدن أو خارجها، بعضها يُشاد في مكانه، وبعضها مسبق الصنع، يتم تركيبه من عدة قطع.‏‏

قد تكون الجسور مغلقة، أو مفتوحة. ناهضة على ركائز وأوتاد، أو مشدودة إلى أعلى بنظام هندسي خاص، وأحدث طرز الجسور وأكثرها تعقيداً، تلك التي تُبنى هذه الأيام فوق سطح البحر، لتصل مدينة ساحلية بأخرى، أو دولة بدولة ثانية، كما هو الجسر الذي يربط السعودية بالبحرين. أضيف إلى الجسور مظلات ودربزونات ووسائل إضاءة، وقُسّمت إلى معابر للسيارات، وأخرى للمشاة، وقد تحوّل بعضها إلى ما يشبه الأعجوبة لطوله، وطريقة إشادته، وتصميمه الذي قد يجمع بين مواد وخامات مختلفة، وقد يقتصر على مادة واحدة، وهو بحاجة دائمة، لمراقبة وصيانة وترميم، ولهذا تُربط الجسور اليوم، بأجهزة قياس، تنبئ عن كل خلل تتعرض له.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

جماليات في البال‏‏

من المؤكد أن كل إنسان منا يحمل في ذاكرته البصريّة، العديد من الصور لجسور عبرها، أو شاهدها. بعضها استخدمها مرة أو مرات، وبعضها الآخر، يستخدمها يومياً. منها ما علق بذاكرته لجمال تصميمها، وبراعة إشادتها، ومنها ما يحتضن ذكريات خاصة، أو يُشير إلى حادثة ما. ولأن الجسور صارت من الحاجات الضروريّة المنتشرة بكثرة داخل المدن وخارجها، أخضعها المعنيون لقوانين ونظم جماليّة، تربطها بما يحيط بها من تضاريس طبيعيّة، أو معالم معماريّة، بحيث لا يشكّل وجودها (كشكل وتصميم) نشازاً في المكان الناهضة فيه، وإنما يجب أن تنسجم وتتوافق مع محيطها. بل لقد تحوّل بعضها، إلى ما يشبه التحفة المعماريّة والفنيّة الرافلة بجماليات رفيعة، ساهم بتحقيقها المهندس المصمم، والفنان المزيّن والمزخرف، إذ طالما كانت الجسور ولا تزال، من المجالات الرحبة لإبداع المعماريين والفنانين التشكيليين والمهندسين الإنشائيين والميكانيكيين والكهربائيين الذين يجب أن يتعاونوا جميعاً، في إخراجها بشكل تؤدي فيه وظيفتها الاستخداميّة الحيويّة والضروريّة، بيسر وسهولة، ووظيفة أخرى، لا تقل عنها أهميةً وإلحاحاً، هي الوظيفة الجماليّة التزيينيّة، يُضاف إلى ذلك، دورها في التأريخ والتوثيق لطرز المرحلة التي شُيدت فيها.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

جسور الفن‏‏

ارتبط عدد من الجسور القائمة فوق الأنهار الكبيرة، في المدن الأوروبيّة كدريسدن، وهامبورغ وبودابست، وبراغ، وباريس، بتجمعات للفنانين التشكيليين، لاسيّما المصورين الذي يمارسون الرسم والتصوير فوقها، بحيث تحوّل بعضها إلى محترفات في الهواء الطلق لهم. كم ظهرت جماعة منهم عام 1905 في مدينة دريسدن الألمانيّة باسم (جماعة الجسر) ضمت عدداً من الفنانين المعروفين منهم: بكشتاين، هيكل، نولده، بليل. وكلمة جسر هنا تشير إلى غنى هذه المدينة بالجسور الناهضة فوق نهر الإلبه القادم من سفوح جبال الألب في سويسرا، إلى براغ، فدريسدن، وعدة مدن ألمانيّة أخرى، قبل أن يُنهي رحلته في هامبورغ. كم تُشير عبارة (الجسر) إلى معنى اعتباري يُشير إلى التطلع إلى فنٍ جديد، يُبيح التعبير عن الإنسان، والتواصل مع العالم. وكانت هذه الجماعة التي انفض عقدها عام 1913، مع جماعة (الفارس الأزرق) التي تأسست في ميونخ في نفس الفترة، قد أسست لولادة التعبيريّة الألمانيّة التي لا زالت مستمرة حتى الآن.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية