بمثابة الشرارة الأولى لانطلاق جنس جديد من الأدب في بريطانيا أطلق عليه (الرواية البوليسية) أو الرواية السوداء.
واعتبرت تلك الأعمال بذرة للعديد من الروايات التي صدرت في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وكان من أبرزها أعمال الكاتب البريطاني (تشارلز ديكنز) الذي اعتمد الإثارة والتشويق فضلاً عن استخدامه لرجل التحري وإبراز دوره مستغلاً ذلك في العديد مثل (البيت الكئيب)، وفي فرنسا ظهر الكاتب (جورج سيمونون)، الذي اعتبر معلماً لهذا الجنس الأدبي، كما لم يعد هذا النوع من الأدب حكراً على الرجال فقد نبغت فيه الكاتبة (أغاثا كريستي) واعتبرت أعظم كاتبة روايات بوليسية، فقد حققت كتبها مبيعات خيالية بلغت نحو ألفي مليون نسخة لأنها حولت القصة التي تعتمد على العنف والمطاردات إلى قصة تتحدى فيها عقل القارئ معتمدة على دقة الحبكة، وترابط الأحداث ومنطقية التسلسل والفوضى في أعماق النفس البشرية.
ارتبطت الرواية البوليسية بالسينما ارتباطاً وثيقاً، ولعل من أشهر الشخصيات الروائية التي تبنتها السينما، شخصية المحقق (شارلوك هولمز) التي ابتكرها الكاتب والطبيب الأسكتلندي، (أرثر كونان دويل) وهي شخصية خيالية لمحقق من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وثمة شخصية أخرى أبرزتها السينما هي (جيمس بوند) للكاتب (أيان فليمنغ)، وشخصية (المفتش ميغرية) التي أطلقها الروائي الفرنسي (جورج سيمنون).
وبالرغم من اتساع سوق الرواية البوليسية في الغرب واتساع قاعدة قراءتها إلا أنها تعتبر أدباً من الدرجة الثالثة في العالم العربي ويكاد كتابها يحصون على الأصابع، فهو أدب مهمش غير معترف به من قبل النقاد.
فما أسباب عزوف الكتاب العرب عن الرواية البوليسية وأين يضعونها..؟
إن الحركة النقدية كما يقول بعض الأدباء العرب هي المسؤولة عن هذه النظرة للأدب البوليسي، لأنها أعطت انطباعاً بأن هذا النوع من الإبداع هو أدب الدرجة الثالثة، ولأن تقييمنا للإبداع يأتي جافاً وأحياناً عدوانياً ولدينا مفاهيم خاطئة، فمثلاً المتعة والتفكير و(تشغيل العقل) من الممنوعات لذلك ليس الأدب البوليسي فقط هو الضحية وإنما أيضاً ننظر للأدب الساخر والأفلام الكوميدية على أنها أقل من المستوى مقارنة بأنواع الإبداع الأخرى، فالحركة النقدية متأثرة بهذا الجو، لذلك من المستحيل أن تظهر لدينا موهبة مثل (بيكاسو) لأننا لسنا مؤهلين لذلك، فضلاً عن نظرتنا للأدب بشكل عام على أنه لابد أن يكون أدباً حزيناً ومأساوياً، لهذا نستمتع جداً بالأفلام الهندية.
نعتقد أن ما يجعل الأدب البوليسي يحتل الدرجة الثالثة عربياً، أن كتابنا في الدول العربية بالفعل تشغلهم قضايا وهموم فترة الستينيات والسبعينيات، كانت هناك أفلام بوليسية مثل فيلم (الرجل الثاني) لرشدي أباظة، الذي حقق نجاحاً كبيراً، واحتلت هذه النوعية من الأفلام البوليسية المعتمدة على الألغاز نحو 50٪ من إجمالي الأفلام المنتجة في ذلك الوقت، والتي كان العديد منها مأخوذ عن روايات بوليسية لكن حدث تراجع في العالم العربي وبدأنا نشغل أنفسنا بقضايا حزينة.
إن غياب الرواية البوليسية في الوطن العربي في هذه الفترة من القرن الحادي والعشرين، لها علاقة بالخلفية التاريخية وهذا ما يتعلق بالثقافة اليومية التي اعتاد عليها الإنسان العربي، والإنسان الغربي عموماً والأوروبي، خصوصاً فالإنسان هناك ينظر إلى القراءة على أنها عادة يومية لاسبيل إلى التوقف عنها، لأنها زرعت فيه منذ الطفولة ولا تقدر أي مغريات مهما كانت قوتها أن تثنيه عن تلك العادة، وعلى العكس من ذلك نجد الإنسان العربي في الغالب لا يقرأ إلا بالمصادفة أو لقتل الفراغ، فإذا أسقطنا ذلك على الرواية البوليسية فإنه يصدق عليها أيضاً، فما زالت تحظى باهتمام محبيها في المجتمعات الغربية بينما تراجع الاهتمام بها في عالمنا العربي بسبب (أفلام هوليوود) التي أبدعت في تشخيص المخبر السري الذي يستطيع أن يحل كل الألغاز في الجرائم، في صورة مثيرة ومشوقة، رأينا نحن العرب أنها أسهل وأقل كلفة من قراءة كتاب يستهلك الوقت والمال.
لذا فالرأي أن الأدب البوليسي لم يتراجع ولكن الذي تراجع هو قراء هذا النوع من الأدب في عالمنا شأنه في ذلك شأن الأصناف الأخرى من الأدب.