تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أوتار.. حقيقة الحزن

آراء
الخميس 27 -10-2011
ياسين رفاعية

تقول لي إنك حزين، لأنك فقدت عزيزاً عليك أو خسرت مالاً أو هجرتك حبيبتك.

وأنا أصدقك هذا حزن ستنساه فيما بعد وتعود إلى حياتك الطبيعية تأكل وتشرب وتضحك.‏‏‏

لكن الحزن الحقيقي يا صاحبي لا يعلمه إلا الله، حزن مقيم داخل أعماق النفس ينهش بنا كما ينهش السرطان دون أن ندري.‏‏‏

الحزن ليس مرضاً لكنه موقف فلسفي من الحياة عندما نتأملها جيداً نرى أن مآلها الموت. الموت الذي ينتزعنا من أحبابنا وأهلنا وكأن شيئاً لم يكن.‏‏‏

كيف لي أن أموت وأفنى وأنا كنت ملء السمع والبصر؟ كيف لي أن أموت وأترك أولادي يتامى وزوجتي أرمل وأصدقائي وكتبي وعلاقاتي الإنسانية؟ كيف أفقد هذه البهجة فجأة أو بحادث سيارة أو بمرض عضال أو بذبحة دماغية أو هبوط في القلب ثم جثة عابرة إلى مصيرها؟‏‏‏

ثمة في هذا الموضوع الفلسفي من وجه إيجابي فلطالما قرأنا في كتب التراث مثل عبارة «مات ولم تتغير حواسه» أو «توفي متمتعاً بحواسه» أو «وقد متع بجوارحه إلى حين وفاته».‏‏‏

ولطالما نظر الحكماء العرب في بدعية الجوارح السبع وعاودوا النظر: العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل.‏‏‏

لطالما وقفوا خصوصاً عند الحواس الخمس وعند الحكمة من وجودها: «العين والأذن والأنف واللسان واللمس» وقد جعل العرب من الحواس الباب المشرف وكما جاء في كتاب الحكمة عند العرب على المبصرات والمسموعات والشم والطعام والملبوسات تبعاً لحواس البصر والسمع والشم والمذاق واللمس بأفضل حديث يكون وأمتعه وألذه فكان أن فصلوا القول -في معظم مؤلفاتهم- عن لذة الإذن بالصوت الشجي والتذاذ العين بالمنظر الحسن وتنعم الشم بالروائح العطرة واستطابة الفم للطعام الطيب واستعذاب اللمس للملامس اللينة وذلك مثلما ذكر ابن طباطبا من أن العين تألف المرأى الحسن الأنيق وتغذى بالمرأى القبيح الكريه وأن الأنف يقبل الشم الطيب ويتأذى بالنتن الخبيث، وأن الفم يتلذذ بالمذاق الحلو ويمج البشع المر، وإن الأذن تتشوق للصوت الخفيض الساكن وتتأذى بالجهير الهائل، وأن اليد تنعم باللمس اللين وتتأذى بالخشن المؤذي.‏‏‏

واعتبر الطبيب البغدادي أن اللمس هو المقدم على سائر الحواس لأنه الأثبت معرفة والأقوى إدراكاً والأصدق حكماً، تتلوه حاسة اللسان وتعقبها حاسة الشم وإدراكها أضعف من إدراك حاسة الذوق وإدراك هذه أصدق وأقوى وتأتي بعدها حاسة البصر، فحاسة السمع وهي آخر الحواس رتبة وأقلها عموماً وأضعفها تمييزاً.‏‏‏

وخلاصة القول هنا ماذا لو فقدت إحدى هذه الحواس؟ فقدت البصر، أو فقدت السمع، أو خرس اللسان، هنا يكمن الحزن العميق، الحزن الذي لا يظهر نفسه إلى العلن يضرب جذوره في عمق النفس حتى لو ضعفت إحدى هذه الحواس لمجرد الضعف كقلة السمع أو كف البصر قليلاً أو الغرغرة بالكلام هي أيضاً ما توفر الحزن في أعماق النفس.‏‏‏

أنت تصارع الفناء من حيث لاتدري تكافح من أجل البقاء تغالب الجوع وتتقي البرد فإذا بها حياتك كلها حرب مع الموت.‏‏‏

وإذا ما شعرت في لحظة ما أنك انتصرت في الحرب أو في كسب قضية في قصر العدل أو الفوز بجائزة في الأدب الخ، فهذا انتصار مؤقت يدمره الزمان فيما بعد الذي ما انفك يعمل في جسدك إتلافاً.‏‏‏

كل خطوة تخطوها يا صاحبي على درب العمر تقربك من لحدك، إنك في كل لحظة تمضي يموت بعض من كيانك وحواسك إنك تحوك كفنك بيديك ولا تدري والدقائق دود يأكل جسدك إلى أن تتحلل إلى تراب تباعاً تستنفد جزءاً من حصتك في الحياة.‏‏‏

تيار الزوال يجرفك نحو حتفك وأنت لاه لاتدرك إلى أين تجرك خطاك، إنك -يا صاحبي- في احتضار طويل تتلاشى فيه رويداً رويداً كل ثانية كي تكون لابد لها أن تتلاشى وكل ثانية تتلاشى يستحيل عليها أن تكون من أحرى بالعدم هذا الذي نحمل هاويته في أعماق نفوسنا هذا هو الحزن الذي لا يعلم به إلا الله عز وجل.‏‏‏

ما وجودنا ياسيدي؟‏‏‏

الانحلال يدب فينا مع عقرب الساعة وحياتنا نزاع بطيء، الماضي قبر مظلم، المستقبل قبر فاغر فاه والحاضر نقطة لا ترى متنقلة بين عدمين ونحن نموت عمرنا يبري عظامنا الزمان.‏‏‏

الدودة تنخر في أجسادنا دون انقطاع إنها تمارس نشاطها في حياتنا دون توقف وأن الموت -ياصديقي- هو من صميم الحياة.‏‏‏

هذا هو الحزن المتجذر في أعماقنا.‏‏‏

باختصار: أنا موجود إذاً أنا أفنى.‏‏‏

إذاً أنا أعاني الموت الذي لا وجود له إلا بالنسبة إلى الأحياء لأنه يفترض لحماً طرياً يعمل فيه أنيابه الحادة، أما بالنسبة للأحداث في المقابر فإنه لا يوجد شيء على الإطلاق.‏‏‏

أنت وأنا كائن ما يتمخض عن موته ونحمله في دواخلنا كما تحتوي الثمرة نواتها.‏‏‏

على كل حال: الموت جدير بالاحترام لأنه لا يوفر أحداً من الناس لأنه جزء متمم للحياة وشرط مقدس لها وأن تجربة البقاء وتجربة الزوال واحدة: «أن نعيش هو أن نموت».‏‏‏

ما العمر سوى عملية إتلاف متواصلة للجسد الذي يجب أن نهدم الهوة بينه وبين الروح.‏‏‏

ها هو الحزن هنا.‏‏‏

أن نفقد الآخرين هو الحزن المؤقت.. أما أن نفقد أنفسنا ببطء هو الحزن المتجذر الحزن المقيم في الأعماق يتلفنا تباعاً دون أن ندري.‏‏‏

أحزان الظاهر كثيرة جزء من مادة الحياة اليومية، أما تلك الأحزان المتجذرة في العمق فالله وحده يعرفها لأنها تأكلنا كالوحش الذي لا يشبع.‏‏‏

سلامتك يا حبيبتي‏‏‏

لا تسبلي عينيك‏‏‏

لي هذا الرجاء‏‏‏

حركي يدك لأقبل أصابعك النحيلة‏‏‏

استيقظي كي لا أموت إلى جانبك‏‏‏

انهضي زنبقةً كي تأخذ فسحة البراري‏‏‏

انهضي طقوساً للعشاق‏‏‏

انهضي لقاءً جميلاً بين الوداع والوداع‏‏‏

انهضي لألوذ بك من رذاذ اللهب‏‏‏

ومن جنون الأسياد‏‏‏

قفي سلاماً أيتها الناعمة‏‏‏

في حضرتك أدور الدوائر وأعترف: أحبك‏‏‏

من غرفة بيضاء إلى غرفة بيضاء أهمس: أحبك‏‏‏

انهضي يا سفينة البحر وافردي أشرعة المواعيد‏‏‏

دعيني ألبس حالتك قميصاً وعباءة ودفئاً لا يموت‏‏‏

دعيني أتمتم هذيانك الرحب فاكهة الصباح والمساء‏‏‏

أيتها المعجونة بالحب يا سيدة الناعمة وأهلها‏‏‏

انهضي من سريرك الأبيض‏‏‏

انهضي كي أرى الصحو في وجهك الذابل‏‏‏

انهضي نتصاعد معاً كفانا متشابكتان بالخير ينتظر بالباب‏‏‏

فللجنوب أن يتجه نحو الشمال‏‏‏

وللشمال أن يتجه نحو الجنوب‏‏‏

لتتشابك الزوايا الأربع حيث تتألق صورتك‏‏‏

انهضي يا حبييتي‏‏‏

أطلي من الشرفة ولوحي لجماهير حبك‏‏‏

سلامتك يا حبيبتي‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية