تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


وعد بلفور..قرن كامل من المأساة الفلسطينية

شؤون سياسية
الخميس 3-11-2011
عبد الحليم سعود

  لا يجادل أحد حول حجم وطبيعة الآثار الكارثية التي ترتبت على وعد بلفور رغم مرور 94 عاما على صدوره، فهو الوعد المشؤوم الذي تعهد بموجبه وزير خارجية بريطانيا آنذاك آرثر بلفور لليهود

بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين على حساب شعبها، بعد أن جر هذا الوعد الكثير من المآسي وساهم في العديد من الحروب في المنطقة العربية، ويرى الكثيرون أن تداعياته لم تنحصر بفلسطين التي اضطهد أهلها واقتلعوا من مدنهم وقراهم ليحل محلهم مهاجرون غرباء جاؤوا من أصقاع متفرقة حول العالم، وإنما طالت العديد من الدول العربية وساهمت بإحداث تغييرات جغرافية وديموغرافية وتاريخية غاية في الخطورة والتعقيد من الصعب معالجتها أو محو أثارها، ليصح القول: إن وعد بلفور أسس لمأساة فلسطينية وعربية شارفت المئة عام.‏

  وإذا كان نص الوعد وما تبعه من إجراءات بريطانية لتنفيذه بات جزءا من تاريخ قريب نحفظه عن ظهر قلب، حيث لا يزال بعض من عاصر تلك المرحلة حياً يرزق يرويها لأولاده وأحفاده من بعده، إلا أن التطورات التي سبقت الوعد ومهدت له لا تزال مثار بحث وتحليل لمعرفة الدوافع المباشرة وغير المباشرة من ورائه، وإن كانت الفكرة الأساسية المتفق عليها أن الأوروبيين ضاقوا ذرعا بسلوك اليهود وتصرفاتهم المشينة فأرسلوهم إلى منطقتنا ليعيثوا فسادا وقتلا وتخريبا، وبذلك ضربوا عصفورين بحجر واحد، فمن جهة استراحوا منهم ومن دسائسهم ومؤامراتهم ومن جهة أخرى استثمروا وجودهم وتعاظم دورهم وقوتهم في منطقتنا لتفتيتها ونهب ثرواتها ومقدراتها.‏

 وتتحدث الكثير من المصادر التاريخية حول كيفية معاملة اليهود في أوروبا خلال عصور طويلة مؤكدة على أنهم عوملوا وكأنهم دون البشر أو أشبه بحيوانات يجب أن تضرب وتقتل ويساء إليها، وبالطبع لم تكن تصرفات الأوروبيين تجاههم على بشاعتها سوى ردة فعل مبررة في علمي الاجتماع والنفس على من حاولوا دائما زرع الفتن وخلق المشكلات في المجتمع الأوروبي، وهذا ما أدى في واقع الحال إلى تقوقع اليهود داخل غيتوات (حارات خاصة بهم) وبالتالي نشوء علاقة وثيقة بين اليهودي والغيتو الذي يعيش فيه، الأمر الذي زاد من عزلتهم عن محيطهم، ودفع باتجاه نشوء شخصية يهودية خائفة على الدوام تخشى الاحتكاك أو الخروج من أسوار الغيتو، وربما هذا ما يفسر إصرار الصهاينة على الاستمرار في بناء الجدران العنصرية الفاصلة في الأراضي المحتلة لمنع الاحتكاك بالفلسطينيين، وهنا بدأ التفكير جديا بإيجاد مكان يأوي اليهود إليه ويتجمعون فيه دون خوف، أي أن يكون لهم دولة مستقلة تقوم على أساس الديانة اليهودية وتدعي القومية، ما ادى إلى نشوء الحركة الصهيونية التي قادت عملية البحث عن بديل للغيتوات الصغيرة، وقام زعماء هذه الحركة ومنهم هرتزل ووايزمن بمحاولات حثيثة لإقناع عدد من سياسيي أوروبا بإيجاد بقعه أرض خاصة باليهود سواء في آسيا أو إفريقيا أو القارة الأسترالية.‏

ففي القرن الثامن عشر أدركت بريطانيا وفرنسا وألمانيا أهمية فلسطين على جميع المستويات باعتبارها نقطة ربط أساسية بين المستعمرات الأوروبية في الشرق والغرب، حيث بدأت كل من فرنسا وبريطانيا في أواخر هذا القرن تفكران مليا في احتلال فلسطين، وقد بدأ نابليون خلال حملته على مصر أولى المحاولات في وقت كان فيه اليهود يتمددون اقتصاديا في حين كانت فرنسا تعيش إرهاصات ثورتها والشعب يقتتل من أجل الرغيف، فأراد نابليون أن يمول حملاته من خلال مساعدة اليهود له في مقابل تمكينهم من فلسطين لكن فشل حملته على مصر وبلاد الشام أجهضت الحلم الصهيوني ليتأجل قرنا كاملا حتى ظهور الزعيم الصهيوني تيودور هرتزل الذي بدأ بالتحرك سريعا لاستغلال الظروف العالمية آنذاك.‏

يقول هرتزل في مذكراته: «سأتفاوض أولا مع قيصر روسيا بخصوص السماح لليهود الروس بترك البلاد، ثم أتفاوض مع قيصر ألمانيا ثم مع النمسا، ثم فرنسا بخصوص يهود الجزائر، ولكي يكون لي اعتبار في البلاطات الأوروبية يجب أن أحصل على أعلى الأوسمة من قبل الانكليز» وقد ساهم الأسقف الأنغليكاني في فيينا وليم هشلر وهو صاحب كتاب (عودة اليهود إلى فلسطين) في تقديم وتزكية هرتزل لدى بلفور عام 1905 بعد أن فشلت وساطاته لنفس الغرض مع القيصر الألماني والسلطان العثماني، ومنذ ذلك اللقاء بين هرتزل وبلفور انطلقت المسيرة نحو تأمين غطاء من الشرعية الدولية للمشروع الصهيوني، وساعد على ذلك شغف رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج بهذا المشروع أكثر من بلفور نفسه فكان الوعد الذي مهد لاغتصاب فلسطين وتهجير أهلها خارج الحدود وبقية القصة معروفة.‏

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ما الذي دفع بريطانيا لتبني المشروع الصهيوني ورعايته ؟‏

بحسب التاريخ فإن الكثير من الوقائع تثبت اهتمام بريطانيا بفلسطين لأسباب اقتصادية صرفة، إلا أن التماهي الكامل بين بريطانيا والحركة الصهيونية كان الدافع الأكبر للحكومة البريطانية لإصدار مثل هذا الوعد، وتتلخص دوافعها بما يلي:‏

ـ تحقيق ما يعتقد أنه تعاليم للديانة المسيحية: فالنزعة الصهيونية المسيحية جعلت فكرة ما يسمى عودة اليهود إلى فلسطين تبرز بقوة كشرط لعودة السيد المسيح ودخول اليهود في المسيحية وبالتالي نهاية العالم وهو ما يعني أن تسهيل اغتصاب فلسطين من قبل اليهود كان نوعا من الأفكار الدينية المتطرفة.‏

ـ ضمان تأييد اليهود في العالم للحلفاء في حربهم وخاصة يهود الولايات المتحدة الذين دفعوا فعليا أميركا لدخول الحرب العالمية الأولى رسميا عام 1917 .‏

ـ التنافس الامبريالي على السيادة والمصالح الإستراتيجية، فقد كان لفرنسا موطئ قدم في فلسطين من خلال علاقتها بالكاثوليك، في حين كانت روسية على صلة وثيقة بالأرثوذكس، في حين لم يكن لبريطاني أي حليف في هذا البلد فتحالفت مع الحركة الصهيونية على اعتبار أن فلسطين هي نقطة التقاء قارات العالم وهذا ما يمنحها موقعا استراتيجيا لا نظير له.‏

ـ حمل يهود روسيا ويهود الدول المحايدة لتأييد قضية الحلفاء في الحرب وبالتالي منع انخراطهم في الحزب الشيوعي الذي وقف ضد مواصلة روسيا الحرب.‏

ـ الثقل المالي الذي يتمتع به اليهود في العالم والذي ساعد الحلفاء في كسب الحرب.‏

ـ تنفيذ الوعد الذي قطعته بريطانيا لحاييم وايزمن بإنشاء وطن قومي لليهود بعد أن ساهم هذا الأخير بتحضير الغليسرين واستخدمه في صناعة المتفجرات، وقد عرضت عليه بريطانيا أن تشتري منه حق الاختراع مقابل ما يطلبه، فكان طلبه أن تعد بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين مقابل حق انتفاع الجيش البريطاني باختراع وايزمن الذي استخدم ضد الجيش الألماني، ووافق لويد جورج على شرط وايزمن وكلف وزير خارجيته بلفور بأن يصدر وعده المشؤوم.‏

ورغم بطلان هذا الوعد قانونيا وسياسيا وإنسانيا وأخلاقيا فقد مهد لاغتصاب فلسطين ونشوء كيان استيطاني عدواني في قلب الأمتين العربية والإسلامية، وكان استكمالا لوعد نابليون، وتوطئة للوعود الأميركية المتتالية بالاعتراف بدولة يهودية على التراب الفلسطيني، فالأميركيون في كل يوم يعدون الصهاينة بما هو أهم من وعد بلفور ويغطون جرائمهم المستمرة بحق الشعب الفلسطيني ويضغطون على العالم حتى يتمكن الصهاينة من إبادة وتشريد ما تبقى من الفلسطينيين على أرض الآباء والأجداد.‏

ولكن المؤسف اليوم أن العالم بأجمعه يشاهد حصاد ونتائج وعود نابليون وبلفور وبوش وأوباما دون أن يحرك ساكنا، وكأنه مكتوب على الفلسطينيين والعرب أن يتحملوا كل هذا الظلم والعدوان الذي يرتكب بحقهم دون أن يعدهم أحد برفع الظلم وإنهاء الاحتلال، وما نشهده اليوم في غزة من حصار مستمر وعمليات قصف واغتيالات ليس سوى مرحلة من عدة مراحل ذاق خلالها الفلسطينيون أنواعا مختلفة من العذاب والظلم على أيدي مجرمين وعصابات صهيونية ثبتت دعائم وجودها واحتلالها بفضل وعد بلفور ودعم فرنسا والولايات المتحدة .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية